فقه النوازل

في هذه العشر الأواخر من رمضان تهطل العقوبات من كل جانب.

فقد قرر حكماء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري معاقبة محطتي «هيت راديو» و«شدى إف إم» وذلك بتوقيف بثهما خلال أوقات متفاوتة طيلة خمسة عشر يوما. الأولى بسبب تحويل منشطه بوصفيحة لستاندار برنامجه إلى ما يشبه الهاتف الوردي يستقبل فيه مكالمات ذات طابع بورنوغرافي تحرض على الانحراف الجنسي، والثانية بسبب قيام منشطها بهلول بالدعاية في برنامجه «سمع سمع» لأنس الصفريوي مالك مجموعة الضحى، واصفا إياه بالرجل «الله يعمرها دار والذي يبني الديور للناس»، وكأن الصفريوي يوزع البيوت على عباد الله مجانا.

هذه العقوبات كانت ضرورية لكي يفهم أصحاب هذه المحطات أن هناك قانونا وافقوا عليه عندما وضعوا طلبات للحصول على تراخيص. وكانت ضرورية أيضا لكي يفهم القادمون الجدد إلى حقل الإعلام الإذاعي أن برامجهم تخضع للمراقبة القانونية الصارمة. وأن زمن «غير جيب يا فم وطلق» قد انتهى.

طبعا هناك من وجد أن هذه العقوبات كانت قاسية، وهناك من كتب مدافعا عن حق الجميع في مناقشة موضوع الجنس على الهواء بدون عقد. ناسيا أن هناك فرقا كبيرا بين مناقشة مواضيع الجنس بشكل علمي وبين جر لسان المراهقين نحو «البورنوغرافوني» برسائلهم القصيرة من أجل مراكمة الأرباح بفضل خدمة الرسائل الهاتفية الباهظة. كما نسي هؤلاء أن محطة «هيت راديو» قد سبق وأن حذرتها وعاقبتها الهيئة العليا السنة الماضية، ومع ذلك لم تفهم أن منشطها النجم الذي جاء إلى المحطة من مطعم كان يشرف فيه على التنشيط الموسيقي، يجب أن يخضع لتكوين إعلامي حتى يدرك الفرق بين التنشيط الموسيقي في الكباريه والتنشيط الإذاعي على الهواء. فكرر المنشط نفس الزلة، لكن هذه المرة كانت الزلة أكبر.

عندما يخطئ الإنسان يتمنى أن يكون العقاب الذي سينزل به عادلا غير ظالم. وقد قارنت بين العقاب الذي أنزلته الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالمحطات التي أخلت بالتزاماتها، وذلك بمنع بثها لخمسة عشر يوما خلال فترات معينة من النهار، وبين العقاب الذي أنزلته وزارة الداخلية بالمغرواي رئيس جمعية الدعوة للقرآن والسنة عندما أشهر فتواه الشاذة حول زواج بنت التاسعة، حين أقدمت إلى حدود اليوم على إغلاق ست وعشرين دارا لتحفيظ القرآن والسنة تابعة لجمعيته، إلى أجل غير مسمى، وربما إلى الأبد. متناسين أن رجلا كالقزابري الذي استطاع أن يجمع وراءه الملايين من المصلين في مسجد الحسن الثاني خلال ليالي رمضان، هو أحد خريجي هذه الدور القرآنية التي تشتغل منذ عشر سنوات دون أن يظهر منها ما يفيد تشجيعها للإرهاب أو التطرف.

فما هو هذا المنطق الذي نمنع بموجبه محطة إذاعية من بث برامجها خلال فترة معينة من اليوم ولخمسة عشر يوما بسبب تحريض منشطها للمراهقين والمراهقات على الدعارة والانحراف الجنسي، بينما نغلق بشكل نهائي دورا للقرآن يحفظ فيها أبناء المغاربة كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، لمجرد أن هذه الدور تابعة لجمعية يرأسها رجل أفتى في الدين فأخطأ.

وقد أبانت وزارة الداخلية والمجلس الأعلى للإفتاء عن عدم احترافيتها في التعاطي مع مثل هذه المواقف الشاذة. فالداخلية، وجريا على عادتها، اختارت التطرف في معاقبة صاحب الفتوى، أما المجلس الأعلى للإفتاء فقد «اقترف» بلاغا مخجلا لا يليق بمستوى العلماء. وهم الذين يعطون الدروس بلا توقف في محاضراتهم ومنتدياتهم بضرورة التحاور مع الديانات الأخرى لأن ديننا يحضنا على ذلك. فكيف بالله عليكم يريدوننا أن نقتنع بما يقولونه حول فتح الحوار مع رجال الدين الأجانب إذا كان علماؤنا عاجزين عن فتح الحوار حتى مع الأئمة والشيوخ الذين ينتمون إلى نفس ديانتهم.

أما العقاب الذي أنزلته الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بمحطة «شدى إف إم» ومنشطها البهلول، فهو درس لكل الذين يستغلون الوضعية الصعبة التي تمر بها بعض المؤسسات لكي «يعكرو» لها ولأصحابها بالعكار الفاسي. فقد توصلت الهيئة إلى أن «بهلول» الذي يقوم اليوم بتقديم وصلات دعائية لمجموعة الضحى في القنوات التلفزيونية العمومية، إلى أنه اقترف خلطا مقصودا ومتعمدا بين طبيعة برنامجه «الإبداعي» حتى لا نقول الإفداعي، وبين الدعاية لأنس الصفريوي صاحب «الضحى». في وقت كانت فيه المجموعة ومالكها وسط إعصار صحافي بسبب استفادة الصفريوي من أراضي الدولة والأحباس بدون مناقصات وبأسعار تفضيلية.

والواقع أنه ليس بهلول وحده من قام بالدعاية لأنس الصفريوي في وقت «الحزة». بل هناك جيش عرمرم من الصحافيين تجند للدفاع عن الرجل ومملكته العقارية. خالطين بين واجبهم الإعلامي في إخبار القراء بتفاصيل فضيحة التفويتات التي كانت مسلسل الصيف بامتياز، وبين الدعاية للرجل وتعداد نجاحاته الباهرة التي يتربص بها الحساد من كل جانب. فالرجل محسود، ويبدو أن هذا الحسد قد أثر مؤخرا على أسهم شركته في البورصة، والتي فقدت قيمتها وتراجعت إلى الوراء. حتى إنه لم يعد يستطيع أن يساير المنافسة. ليس في سوق العقار، وإنما في مجال النقل الجوي. فأحد الربابنة الذين يسوقون به طائراته الثلاث الخاصة قدمت له شركة طيران خليجية عرضا أفضل من العرض الذي يقدمه له الصفريوي. ولذلك فليس بنهمية مدير الخطوط الجوية الملكية وحده من يعاني من تهافت شركات الطيران على الربابنة المغاربة، وإنما الصفريوي أيضا لديه نفس المشكل.

ولحسن حظ هؤلاء الزملاء في الصحافة المكتوبة أن مهنتنا لا توجد على رأسها هيئة عليا للاتصال المكتوب، وإلا لكنا رأينا صحفا وصحافيين يتلقون عقوبات مماثلة للعقوبة التي نزلت على بهلول.

وفي مقابل كل هذه العقوبات التي تهاطلت خلال هذه العشر الأواخر من رمضان، هناك عقوبات ومتابعات ينتظر الجميع انطلاقها بدون طائل.

ومنها محاكمة اليعقوبي زوج عمة الملك، الذي «تكرفس» في هذا الشهر المبارك، من كورساكوف طبعا وليس الكرافس، على شرطي مرور، وعطبه في فخذه. ولم يجرؤ أحد إلى اليوم على تحريك المتابعة القضائية ضده، رغم مطالبة تسع منظمات حقوقية بمتابعته ومطالبة والجمعية المغربية لحقوق الإنسان بتطبيق القانون ضده.

وشخصيا أعتقد أن المتابعة الحقيقية لا يجب أن تكون فقط في حق اليعقوبي، الذي على القضاء وحده أن يثبت سلامته العقلية من عدمها وليس لاماب، ولكن يجب أن تشمل المتابعة القضائية كل رجال الأمن والمسؤولين الأمنيين الذين سهلوا عملية فرار المتهم من مسرح الجريمة. فهؤلاء المسؤولون يجب متابعتهم بجريمة المشاركة، لأنهم شاركوا بالفعل في التواطؤ مع اليعقوبي وأخلوا بواجبهم المهني الذي يفرض عليهم اعتقال الجاني في مكان الجريمة واقتياده إلى ولاية الأمن، وليس إلى مكتب القباج والي الدار البيضاء.

أما المتابعة الثانية التي لم نسمع بها إلى اليوم فهي متابعة الكولونيل التريكي صهر الجنرال حسني بنسليمان الذي زور محضر حادثة سير نتج عنها مقتل حارس فندق «أونفيتيرت بالاس» بالصخيرات وجرح آخر. ورغم ثبوت تورط الكولونيل سمير التريكي في جريمة التزوير فإنه لم يخضع لأية متابعة من طرف المحكمة العسكرية، ولازال حرا طليقا.

سنظل نكررها ونعيدها، لن تكون هناك هيبة للقضاء في المغرب مادامت العدالة غير قادرة على فرض سلطتها على الجميع وبدون استثناء. لقد فهم الجميع رسالة الملك عندما لجأ إلى القضاء بعد تعرض قصوره للسرقة. فقد كان ممكنا أن يلجأ إلى طرق والده العتيقة في ردع من تمتد أياديهم الطويلة إلى كؤوسه أو صحونه، لكنه اختار أن يلجأ إلى القضاء ككل المواطنين.

الآن على بعض الذين يعتبرون أنفسهم فوق القضاء، بحكم انتمائهم إلى «الشرفا»، أن يفهموا هذه الإشارة الملكية وأن يقبلوا اللجوء إلى القضاء في حالة ضياع ممتلكاتهم، كما في حالة اقترافهم لما يستوجب الوقوف أمام العدالة.

بدون هذه المعادلة سيبقى كل حديث عن دولة الحق والقانون مجرد كلام يدخل من هذه الأذن ويخرج من الأذن الأخرى.

العدد 633 الاثنين 29 سبتمبر 2008

وهادي كذبة باينة

في حواره الأخير مع مجلة «جون أفريك»، قال الوزير الأول عباس الفاسي مفتخرا بأنه لم يسمع قط منذ تكوين حكومته أية نغمة نشاز في مجالسه الوزارية، ولم يحدث أن أخذ وزير من وزراء حكومته الكلمة لكي يشوش على هذا التناغم. أي أن وزراء حكومة عباس يغنون أغنية واحدة لا نشاز فيها. وهي أغنية «كولو العام زين» على الأرجح.

وطبعا كل هذا التناغم لم يمنع جريدة الوزير الأول في عددها الصادر يوم الخميس الماضي من تذكير «مكونات الحكومة» بضرورة «الانضباط لقواعد العمل الحكومي». مما يعني أن أحد الوزراء «طاح ميزان» كما يقول الموسيقيون، وشوش على بقية أفراد الكورال والأوركسترا. ولذلك كان ضروريا أن يحرك المايسترو عباس عصاه الرفيعة لكي يعود الإيقاع إلى مستواه الطبيعي.

والسبب في هذا «التذكير» هو انزعاج الوزير الأول من جهة وزارية سربت خبر التلاسن والتراشق اللفظي الذي دار بين شكيب بنموسى وزير الداخلية واليازغي وزير الدولة صاحب «الصاكاضو» الفارغ، حول مدى دستورية إصدار القانون الأساسي لرجال السلطة بظهير.

فاليازغي استيقظ في داخله فجأة ذلك المحامي القديم الذي كان داخلا في بيات شتوي وسياسي طويل، ووجد أن القانون الأساسي لرجال السلطة يجب أن يعرض أولا على مجلس الحكومة ثم على البرلمان لكي تتم مناقشته، قبل أن يعرض على الملك للمصادقة عليه.

هذا إذن أول تكذيب، وعلى صفحات جريدة الوزير الأول، لأسطورة التناغم المزعوم بين مكونات حكومة عباس. وهو تكذيب يسحب المصداقية عما قاله عباس لمجلة «جون أفريك» التي للأسف لا يفقه صحافيها الذي أجرى الحوار العربية حتى يقرأ افتتاحية «العلم» ويدرك أن عباس «دوز عليه الدكاكة» في ذلك الحوار.

ثاني تكذيب جاء هذه المرة من القناة الثانية، التي لم يستبعد مصدر من داخلها إمكانية مقاضاة عباس الفاسي بتهمة نشر أخبار زائفة. خصوصا وأنه أراد أن يزيل «زبلة» نفيه لوقوع أي أحداث في سيدي إفني من رأسه ويلصقها برأس سميرة سيطايل مديرة الأخبار بالقناة الثانية. وهكذا برر عباس نفيه القاطع لوقوع أحداث سيدي إفني بكون مقص الرقيب هو الذي ورطه واقتطع أجزاء كثيرة من كلامه، فجاء تصريحه كما سمعه الجميع ذلك اليوم. يعني «لصقها فالمونطاج».

عباس المسكين دائما ضحية. وإذا لم يكن ضحية لمؤامرات سياسية لأحزاب منافسه، فهو ضحية للصحافيين، حتى عندما طوقه ضحايا النجاة في مقر حزبه وجاؤوا يطالبون بدمائهم التي أعطوها للتحليل وتعويضات ملفاتهم التي سرقت منهم، وجد الوجه لكي يقول في وسائل الإعلام أنه إذا كان هناك من ضحية كبيرة لقضية النجاة فهو عباس الفاسي نفسه. فعباس أحسن من يطبق المثل القائل «ياكل مع الذيب ويبكي مع السارح». وهي الحكمة التي يطبقها حزب الاستقلال برمته منذ عهد الحسن الثاني وإلى اليوم. فهم يبكون على التعريب وينتقدون اليوم سيادة اللغة الفرنسية على جميع مناحي الإدارة والحياة العامة، مع أن كل قادة حزب الاستقلال السابقين واللاحقين درسوا أبناءهم في مدارس البعثة الفرنسية، وعلى رأسهم وزير التعليم الاستقلالي عز الدين العراقي الذي توجد في أرشيفات مدارس البعثة الفرنسية أسماء كل أبنائه الذين درسوا وتخرجوا منها. هذا في الوقت الذي عرب التعليم الابتدائي والثانوي وجرب الوصفة في أبناء الشعب في مدارس المخزن، وجلس ينتظر النتائج عندما يصل هؤلاء الأطفال المعربون إلى الجامعات فيكون عليهم إتمام تعليمهم بالفرنسية، لأن التعريب الذي دافع عنه حزب الاستقلال لم يشمل التعليم العالي. والنتيجة هي ما ترون الآن، «خالوطة جالوطة» لا ساس لها ولا رأس.

وهذا أكبر تكذيب لما قاله عباس الفاسي لصحافي «جون أفريك» عندما قال له أن حزب الاستقلال هو حزب الشعب في المغرب. فهل قدم حزب الاستقلال وزراء في حكومته ينتمون إلى الطبقات الشعبية. بالعكس، كلهم أبناء العائلة الفاسية الثرية الواحدة. يتوارثون الوزارات كما يتوارث أبناء الشعب الأحذية والملابس والأمراض. عباس الفاسي الذي نادى عليه للحكومة علال الفاسي بعدما تزوج ابنته، ينادي هو الآخر على زوج ابنته نزار بركة لكي يشغل منصب وزير منتدب مكلف بالشؤون الاقتصادية والعامة. وبما أنه خال الطيب الفاسي الفهري وخال زوج ياسمينة بادو، فإنه ينادي عليه ليشغل وزارة الخارجية وزوجته ياسمينة لتشغل وزارة الصحة. هذا دون أن نتحدث عن ابن عم زوج أخته المفتش العام للإدارة الترابية لوزارة الداخلية، وحفيد عمه المدير العام للشركة الوطنية للطرق السيارة، الذي هو في نفس الوقت أخ الفهري الفاسي مدير الماء الصالح للشرب، أو عن ابن عباس الفاسي المنتخب الجماعي في الدار البيضاء ومدير شركة «إف سي كومينيكاسيون» لصاحبها منير الماجدي السكرتير الخاص للملك. ولو أردنا أن نعدد المناصب والمسؤوليات التي يتحملها آل الفاسي في الدولة والحكومة والمجالس الإدارية للبنوك والمؤسسات المالية منذ الاستقلال وإلى اليوم، لاحتجنا إلى مجلدات وليس إلى صفحات الجريدة.

فأين هو الشعب وأبناؤه من هذه المناصب والامتيازات التي يرفل فيها عباس وسلالته، والتي يدعي بدون خجل أن حزبه يمثلها.

ليس صدفة أن يكون أول قرار يتخذه وزير المالية مزوار بعد تنصيبه من طرف عباس الفاسي في حكومته، هو تقديم هدايا ضريبية للبنوك رغم أن هذه الأخيرة لم تكن بحاجة لكل هذا السخاء بحكم أنها حققت السنة الماضية أعلى نسبة أرباح في تاريخها. وفي المقابل ماذا أعطى للشعب، زيادات في الاقتطاعات الشهرية لقروض «الليزينغ» من رواتب صغار الموظفين الذين غامروا بشراء سيارة تكفيهم شر وسائل النقل العمومية، وزيادات صاروخية في أسعار المواد الأساسية والأدوية، إلى درجة أنهم زادوا حتى في الضريبة المفروضة على أدوية السرطان.
لقد تم اختيار عباس الفاسي لكي يكون وزيرا أول لأن نقطة ضعفه هي الخضوع التام للتعليمات الملكية. وقد اعترف بذلك في حواره مع «جون أفريك» عندما قال أن عباس الفاسي ليس سوى نتاج للرغبة الملكية. وأكبر دليل على أن عباس ينفذ التعليمات هو رفضه مناقشة القرار الملكي الخاص بالقانون الأساسي لرجال السلطة الذي صدر بظهير، وانتقده اليازغي وطالب بخضوعه للحكومة ومناقشة البرلمان.

وعوض أن «يتناغم» عباس مع رأي اليازغي حليفه في الكتلة، ويدافع عن صلاحياته الدستورية ويطالب بإخضاع القانون الأساسي لرجال السلطة للمناقشة الحكومية، أشهر في وجه زميله في الحكومة الفصل 19، الذي يخول للملك أن يقرر ما يشاء ويطبق ما يشاء بدون اللجوء لا إلى الحكومة ولا إلى البرلمان.

ومادام عباس مقتنعا بأن الحل يوجد في الفصل 19، فما عليه سوى أن يجمع حقائبه الوزارية ويذهب إلى بيته ويترك الفصل 19 يسير البلاد كما يشاء.
ماذا يمكن أن ننتظر من وزير أول ضعيف الشخصية، عندما أصدر مرسوما لإلحاق وكالات التنمية بوزارة حجيرة وأصدر القصر بلاغا يلغي هذا المرسوم، لم يجد شيئا آخر يبرر به سكوته سوى اعترافه بأنه «زبلها» وأن الملك صحح له خطأه مشكورا.

ماذا يمكن أن ننتظر من وزير أول يكاد يطير فرحا لأن الملك أعطاه تلفونا خاصا يضعه في جيبه، يمكنه أن يتصل به في أية لحظة. وقد يحدث، بقليل من الحظ، أن يستقبله.

المفروض في وزير أول يرأس حكومة توجد في ملكية تحكم وتسود أن يستقبله الملك أسبوعيا. هذا إذا كان وزيرا أول بالفعل، وليس بالتيمم. أما أن يفتخر بأن الملك يكلفه باستقبال ضيوف المغرب وتمثيله في المناسبات والأعياد الوطنية للدول الشقيقة والصديقة، فليسمح لنا الوزير الأول لكي نقول له أن هذه ليست وظيفة وزير أول وإنما وظيفة الحاجب الملكي.

العدد 631 الاحد 28 سبتمبر 2008

من الزبالة للطيفور

شخصيا لم أستغرب للرتبة المخجلة التي تقهقر إليها المغرب في سلم الرشوة. فخلال سنة واحدة انتقلنا من الرتبة 72 إلى الرتبة 80، هذا في الوقت الذي تراجعت فيه الرشوة في دول كان المغرب إلى الأمس القريب يتفوق عليها اقتصاديا واجتماعيا.

إن هذا الترتيب الذي لحسن حظنا لم تكن الصحافة هي التي أنجزته وإنما منظمة ترانسبارينسي الدولية، هو أكبر تكذيب لما صرح به الوزير الأول عباس الفاسي لمجلة «جون أفريك» في عددها الأخير، والذي يرسم فيه صورة مشرقة لحكومته المتناسقة وللصلاحيات الكبيرة التي يتمتع بها على رأس هذه الحكومة.

فبعد سنة من تولي حزب الاستقلال رئاسة الحكومة، هاهو مستوى انتشار الرشوة يزداد، والمغرب تغوص أقدامه في الفساد أكثر من ذي قبل.

ورغم كل «العكر الفاسي» الذي يريد عباس طلاءه على وجه حكومته بعد سنة من تكوينها، فإن الواقع لا يرتفع، وعلى رأي المثل «وجه الشارفة ما يخفى ولو تحكو بالحلفة». فمظاهر هذا الفساد الكبير أصبحت بادية «للعيان». والمقصود بالعيان هنا طبعا ليس عباس.

عندما يصل الفساد في بلد ما إلى مستوى مقلق، تظهر علامات دالة عليه لا تخطئها العين. فسقوط القطرة من سقف مطار دولي لم يمر سوى عام على افتتاحه، شيء مخجل وخطير في نفس الوقت. كما أن سقوط عمود ضوء بالقرب من الملك عندما جاء ليصلي في المسجد العتيق بعين الشق بالدار البيضاء، يخفي مشاهد سقوط أخرى يتستر عليها والي المدينة ويخفي وراءها عجزه المزمن عن تسيير مدينة في حجم الدار البيضاء. ولو أن الملك تقدم خطوتين ودخل إلى السوق المركزي الذي يجاور المسجد، والذي تركه «النصارى» وورثه محافظ وزارة الأوقاف بعين الشق، لاكتشف كيف يتجاور بائع الخضر مع الحداد وبائع اللحم مع صانع الأحذية، وكيف تمتزج رائحة «الكولا والسوميلا» برائحة «ترياش» الدجاج، ورائحة الفواكه برائحة «السودورات». فقد اكتشف سعادة المحافظ طريقة فريدة لكي يجعل كل هذه المهن المتنافرة تتعايش تحت سقف واحد. والنتيجة أن باعة الخضر والفواكه الذين كان من المفروض أن يكونوا مكان الحدادة وصانعي الأحذية، تشردوا في الحي جارين «كراريسهم» محولين أعرق حي في الدار البيضاء وأرقاه معمارا على عهد الفرنسيين، إلى حي قروي تسوده الفوضى والأزبال.

ولعل المغرب هو البلد الوحيد الذي يمكن أن تتحول فيه زبالة إلى تجزئة سكنية، ومقبرة لدفن أموات المسلمين إلى زبالة لرمي القمامة، والبلد الوحيد الذي يمكن أن ينتقل فيه المسؤول من «الحمارة للطيارة» ومن «الزبالة للطيفور».

وبالأمس فقط بات سكان تجزئة «الهدى» بالدار البيضاء في العراء، بعد أن اكتشفوا تشققات في شققهم التي باعتها لهم مجموعة «الضحى» صاحبة شعار «الله يعمرها دار» الذي صمت به آذان المغاربة بعد الإفطار في التلفزيون. فالضحى شيدت مشروع هذه التجزئة فوق «زبالة ماريكان» الشهيرة بعد ردمها، دون أن تضع في احتمالها أن الأرض التي بنت فوقها كل تلك الشقق ليست صلبة بما يكفي ولا تصلح أصلا للبناء. وهكذا بدأ السكان يلاحظون كلما هطلت الأمطار وتسربت المياه إلى جوف الأرض أن عماراتهم تغوص في الوحل. فخاف الناس على حياة أبنائهم وغادروا الشقق مطالبين بالتعويض.

المدهش في الأمر أن بعض رجال السلطة عندما حضروا لمعرفة سبب احتجاج المواطنين، واكتشفوا أن الأمر يتعلق بشقق بنتها «الضحى»، تطوع أحد أصحاب الحسنات منهم ناصحا المحتجين «واش ماعرفتوش الضحى ديال من». وهذا سؤال مهم في الحقيقة. فالكثيرون يريدون معرفة «ديال من هاد الضحى نيت». مادام مالكها أنس الصفريوي يسمح لنفسه ببناء مساكن للمواطنين فوق زبالة دون أن يخشى المتابعة القضائية.

وفي فاس التي يفتخر عمدتها شباط بشارعها الذي جلب رخام أرصفته من الصين «ليتفجج» فيه الفاسيون ويطلقوا أرجلهم فيه، تحولت مقبرة «باب الجيسة» وضريح «سيدي بولخوابي» إلى زبالة ترمى فيها بقايا الجلود والردم والقاذورات. ويبدو أن هذه هي طريقة العمدة شباط في تكريم خيرة الرجال الذين قاوموا الاستعمار ودفنوا في تلك المقبرة، جنب العلماء والأولياء الصالحين والفقهاء.

والواقع أن المغرب لو ترشح مسؤولوه لمباراة أكبر غشاش في العالم، لحصلوا على المكانة الأولى مع مرتبة الشرف، حتى لا نقول القرف. وهاهم في مراكش يتفقدون أعمدة الضوء ويبلطون الحيطان والأرصفة والشوارع التي يمر منها الملك عادة عندما يزور مراكش. فقد خافوا أن يتكرر مشهد سقوط العمود أمام أنظار الملك كما وقع في الدار البيضاء، أو كما وقع في مراكش نفسها في حي سيدي يوسف بنعلي عندما سقط عمود ضوء على رأس أحد المواطنين وقتله.

فالأمطار الأخيرة كشفت عن عورة مراكش ومسحت عن وجهها تلك المساحيق البراقة التي تضرب السائح على «الشعا». ولعل سكان برج الزيتون بالمحاميد الذين بنت لهم مجموعة «الضحى» مساكنهم ووضعتهم في فوهة واد البهجة بعد أن كانوا يعانون فقط من مشكلة الواد الحار، كانوا أكبر المتضررين من الفيضانات المهولة التي جرفت حيهم قادمة من هذا الوادي الذي يهدد حياتهم. فأصبح زبائن «الضحى» بين نارين، حتى لا نقول بين واديين، «ماحيلتهم لواد البهجة ماحيلتهم للواد الحار».

ومن كثرة الغش في البناء وإنجاز الصفقات أصبح من اللازم على منظمي الزيارات الملكية أن يفكروا في إدخال بعض الإجراءات الوقائية على الزيارات التفقدية التي يقوم بها الملك لبعض المؤسسات المكتملة البناء، حرصا على سلامته البدنية.

ولحسن الحظ أن جزءا كبيرا من باب المستشفى الذي دشنه الملك مؤخرا بالفنيدق، سقط قبل أن يأتي ليعبر منه. فقد تهاوى الباب الرئيسي للمستشفى يوما واحدا قبل الزيارة الملكية، وكسر ركبة عاملة نظافة وتسبب لها في رضوض لازالت ترقد بسببها في مستشفى محمد السادس بالمضيق.
ولذلك ربما ألغى الملك زيارته لمارتيل، فمع كل هذه الأبواب والأعمدة التي تسقط بمناسبة زيارته يصبح التريث أمرا مطلوبا، خصوصا في ظل وجود مسؤولين كل همهم منصب على «تشييط» المصروف من الميزانيات التي يرصدونها للمشاريع التي سيدشنها الملك.
وإذا كان هناك أشخاص يجب أن يتابعوا بتهمة الإخلال بالاحترام الواجب للملك، فهم تحديدا هؤلاء الذين ينصبون للملك الكاميرا الخفية في المدن التي يذهب لزيارتها وتفقد المشاريع التي أطلقها بها من قبل.

وهؤلاء النصابون لديهم خيال خصب لو توفر غرام منه لكتاب حوارات سلسلة «مبارك ومسعود» لكانت أحسن عمل كوميدي لهذه السنة. ففي مارتيل مثلا استعد مسؤولو المدينة للزيارة الملكية بكساء أرضية سوق السمك بغطاء بلاستيكي ووضعوا فوقه التراب والحصى حتى لا تفوح رائحة السوق العفنة ويشتم الملك رائحة المقلب. وخلال عطلة الملك الصيفية في تطوان تفتق خيال المسؤولين عن طريقة جهنمية للقضاء على الناموس الذي يعيش في الواد المالح، حتى لا تهاجم أسرابه القصر الملكي، فرشوا النهر بمبيد حشري. فقتلوا الناموس ومعه مئات الأنواع من الأسماك التي رماها البحر بالقرب من مصب النهر. وعوض أن ينجحوا في محاربة الناموس، نجحوا في نشر رائحة السمك المتعفنة في كل الأرجاء.

إنهم عباقرة حقيقيون، لكن فقط في الغش والقوالب والحسابات الخاوية.

وإذا كان هؤلاء «العباقرة» يمارسون احتيالهم ونفاقهم على الملك، فما بالك بالمواطنين البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة.
في أول رد فعل للحكومة على تقرير ترانسبارينسي الذي صنف المغرب في الرتبة 80، قال خالد الناصري وزير الاتصال أن هذه الرتبة عار بكل ما في الكلمة من معنى.

وهذه أكبر إدانة لحكومة عباس، لأن المسؤولية الأولى والأخيرة لهذا التدني تتحملها الحكومة. وأي حكومة تحترم نفسها تقدم استقالتها عندما تفشل في محاربة الفساد. أي يجب على عباس أن يعترف بالفشل و«يعطي حمارو».

العدد 630 الجمعة 26 شتنبر 2008