مفهوم الأمن في دقيقة وثلاث وأربعين ثانية

خلال الشهر الماضي صورت منظمة إسرائيلية غير حكومية في قطاع غزة جنديا إسرائيليا يصوب بندقيته نحو أحد الفلسطينيين الموقوفين على مبعدة مترين ويصيبه برصاصة مطاطية في ساقه. كان الشاب الفلسطيني يحتج ضد بناء شريط أمني بالقرب من قرية نيلين بشمال قطاع غزة عندما أصابته الرصاصة المطاطية.

مباشرة بعد انتشار هذا الفيديو في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فتح الجيش الإسرائيلي تحقيقا وأوقف الضابط المسؤول عن العمل.

يحدث هذا في إسرائيل التي تحتل بلدا اسمه فلسطين، أما في المغرب فيمكن أن يشاهد الجميع شريطا عبر موقع «يوتوب» مدته دقيقة وثلاث وأربعون ثانية يظهر فيه حوالي عشرة من رجال الأمن وعناصر من القوات المساعدة يعذبون بوحشية مواطنين بعد إخراجهما من منزلهما إلى الشارع، ويقتادونهما إلى المخفر تحت وابل من الركلات واللكمات وضربات العصي.

إلى الآن لم نسمع أن وزارة الداخلية فتحت تحقيقا في هذه التجاوزات الوحشية ضد مواطنين أعزلين.

وطبعا لا يجب أن نؤاخذ هؤلاء العبيد المأمورين على وحشيتهم وساديتهم، فهم لا يفعلون غير تطبيق أوامر وزير الداخلية الذي أوصاهم «بمواجهة أي أعمال شغب بصرامة». وهكذا سيشاهد العالم بأسره كيف تتعامل قوات الأمن في المغرب بصرامة مع المواطنين. وشريط اليوتوب يشرح ذلك بالتفصيل. يجب أولا أن تقتحم بيت المطلوب للعدالة وأن تخرجه مجرورا من قفاه مثل خروف، ثم يأتي أحد رجال الأمن ويقفز حوالي متر إلى الأعلى ويسقط بكل ثقل حذائه العسكري فوق رأس المواطن الموقوف. وقد استغربت كيف أن هذا «البطل» لم يشارك ضمن المنتخب المغربي في ألعاب بكين الأولمبية، فالظاهر أنه يملك مواهب واعدة في رياضة القفز العلوي. بعد ذلك يأتي بقية زملائه ويشرع كل واحد منهم في ضرب جزء معين من جسد المواطن. هناك من يتخصص في تكسير قصبات الساق بضربات من حذائه، وهناك من يتخصص في تكسير الأنف والأسنان بركلات قدمه وقبضة يديه، وهناك من يتخصص في تكسير الأذرع بالعصي، هناك واحد متخصص فقط في ضرب المعتقل بركبته نحو مؤخرته وعموده الفقري.

في الحقيقة لقد أبلى هؤلاء الذين أرسلهم وزير الداخلية ليعيدوا الهدوء إلى سيدي إفني البلاء الحسن في شرح مفهوم «الصرامة» كما هدد بها الوزير سكان سيدي إفني، وعبرهم كل سكان المغرب.

دقيقة وثلاث وأربعون ثانية كانت كافية لكي نفهم أن أحسن قرار اتخذه سكان سيدي إفني بعد اندلاع أحداث السبت الأسود قبل أشهر، وقدوم لجنة لتقصي الحقائق، هو تغيير أبواب بيوتهم الخشبية بأخرى حديدية. فهاهي الأيام تظهر أن سكان سيدي إفني كانوا على صواب عندما اختاروا التوجه عند «السودورات» لكي يلحموا لهم أبوابا فولاذية عوض التوجه إلى الخيمة التي نصبتها لجنة تقصي الحقائق والانخداع بوعود وتطمينات الوزراء الذين حلوا بسيدي إفني ليحدثوهم عن التنمية الموعودة.

لا شيء إطلاقا كان يبرر كل هذه الهمجية التي يستحيل أن نرى مثيلا لها حتى في غزة المحتلة. أكثر من عشرة رجال غلاظ أشداء يتناوبون على رفس وكسر عظام وأسنان مواطنين لا حول لهما ولا قوة، لا يحملان سلاحا ولا يهددان بتفجير عبوة ولا يستطيعان حتى الدفاع عن وجهيهما الملطخين بالدماء.

ماذا قد يكون ارتكب هاذان المواطنان، وحتى إذا كانا قد ارتكبا ما يعرضهما للاعتقال والمحاكمة، فإن لا شيء يبرر اقتيادهما إلى مخفر الأمن وهما شبه جثتين محطمتي العظام ومفككتي المفاصل. لذلك فعوض أن يشجع وزير الداخلية رجاله ورجال الجنرال العنيكري على طحن عظام المواطنين بصرامة، كان عليه أن يحترم منصبه الوزاري، هو المهندس المتخرج من مدرسة القناطر الباريسية، ويوصي رجاله وجميع العناصر الأخرى التي تقاسم رجاله حفظ الأمن في سيدي إفني، باحترام القانون في عمليات التدخل، واعتقال من يخالفون القانون من المواطنين بلا حاجة إلى تعذيبهم في الشارع العام، وتسليمهم إلى الضابطة القضائية التي بدورها ستتولى تقديمهم أمام القضاء، السلطة الوحيدة المخولة لمعاقبة الجناة حسب ما ينص عليه القانون.

إن هذا الشريط الذي سيراه الملايين عبر العالم، يحمل رسالة واضحة لكل الذين تصوروا، بغباء أو بحسن نية، أن الدولة عندما سمحت بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول ما وقع في سيدي إفني، كانت نادمة على التجاوزات التي قام بها رجال الشرقي أضريس والعنيكري، وأنها ستقلع عن اقترافها في المستقبل.

هذا الشريط يكشف بوحشية أن الذين أعطوا الأوامر بتعذيب المواطنين في الشارع العام لا يمكن رؤية مثلها سوى في بلدان وسط إفريقيا التي تعيش انفلاتا أمنيا وسياسيا، أرادوا أن يقولوا للجنة تقصي الحقائق ولكل تقارير المنظمات الحقوقية التي أدانت ما وقع في سيدي إفني، أنهم لا يقيمون لهم وزنا، ولا يعترفون ببرلمانهم ولا بتقاريرهم ولا بالمنظمات العالمية التي يرسلون إليها هذه التقارير لكي تعتمد عليها في ترتيب المغرب بين دول العالم في مجال احترام حقوق الإنسان.

بعض المنظمات الحقوقية التي حاولت أن تخفف من وقع تقاريرها عشية أحداث السبت الأسود في سيدي إفني، والتي تذرعت بعدم وجود حالات للاغتصاب بين النساء المعتقلات، واعتبرت أن التجاوزات التي وقعت ليست سوى تجاوزات طفيفة، ستجد في هذا الشريط الجديد ما يكفيها لكي تراجع أوراقها من جديد.

اللهم إذا كانت تنتظر حدوث حالات اغتصاب بالجملة في سيدي إفني لكي تعترف بأن تعذيب المواطنين في الشارع العام يعتبر انتهاكا لحقوقهم .

إن ما قاله وزير الداخلية للتلفزيون عندما وصل إلى الميناء يكشف عن فهم خطير للأمن، فقد جاء شكيب بنموسى إلى سيدي إفني لكي يطمئن المستثمرين والمهنيين، فقط، أما المواطنون فقد كان نصيبهم من تصريحات وزير الداخلية هو الوعيد. وهذا التمييز في تصريحات الوزير بين المستثمرين والمهنيين وبين السكان العاديين، فيه تحيز لوزارة الداخلية لأمن البعض دون أمن البعض الآخر. ولذلك أضاف أن قوات الأمن ستعمل على مواجهة أعمال الشغب التي ستعرفها المدينة بالصرامة اللازمة. ومن يريد أن يتعرف على كيفية مواجهة رجال شكيب بنموسى لأعمال الشغب بالصرامة اللازمة ما عليه سوى أن يذهب إلى أقرب مقهى إنترنيت ويضع اسم سيدي إفني في محرك البحث وسيرى الشريط الذي يشرح نظرية بنموسى في «الصرامة اللازمة» في دقيقة وثلاث وأربعين ثانية.

هناك اليوم من يتحدث عن وجود جهات خارجية تؤجج الأوضاع الاجتماعية في سيدي إفني، ولذلك فلا يجب تصديق خرافة المطالب الاجتماعية للسكان، لأنها فقط واجهة تخفي مطالب سياسية. وفي نظرهم فهذا التبرير كاف لاستعمال الوحشية الدموية في اعتقال المحتجين وشتم المواطنين في الشوارع بدون سبب واقتحام البيوت لاعتقال المشتبه فيهم.

وهناك من يقول بأن كل ما يحدث في سيدي إفني هو تعبير عن مطالب اجتماعية محضة، كالبنيات الطبية والطرقات وإصلاح الميناء وتوسيعه وخلق مناصب الشغل.

للتأكد من صحة هذه الفرضية ليس هناك حل آخر غير إخضاعها للتجربة. يجب على الدولة أن تشرع في تحقيق مطالب السكان الاجتماعية المشروعة. وعندما ستتحقق هذه المطالب ويتم فك العزلة عن المدينة، سنرى هل سيخرج السكان من جديد للاحتجاج. إذا خرجوا احتجاجا على مطالب سياسية غير مشروعة سنكون أول من يدين مثل هذه الحركات الانفصالية.

أما أن تتعثر مشاريع الإصلاح والتنمية التي وعد بها الوزراء الذين زاروا المدينة عقب اندلاع أحداث السبت الأسود، بحجة أن التعقيدات الإدارية هي السبب، كما قال وزير الداخلية، فليسمحوا لنا أن نقول لهم أن هذا هو العبث بعينه.

إنها نفس القصة القديمة التي ظلت تحكيها الداخلية منذ عشرات السنين في كل مرة تعجز عن إخراج منطقة من مناطق المغرب من عزلتها وتهميشها، فتسارع إلى تبرير عجزها ووحشية تدخلها بتعابير مستهلكة مثل «نظرا لحساسية المنطقة» و«الأطماع الخارجية»، و«خصوم الوحدة الترابية».

إن هذه الأسطوانة المشروخة لم تعد تقنع أحدا. ليس هناك حل آخر في سيدي إفني غير الإصلاح المستعجل للأعطاب الاجتماعية للمدينة. من الممكن أن تكون هناك جهات في المدينة تحركها حسابات سياسية خارجية، لكن هذا ليس مبررا لمعاقبة مدينة بكاملها والحكم عليها بالخيانة واعتبار سكانها مجرد خارجين عن القانون يهددون المستثمرين والمهنيين.

إذا كانت وزارة الداخلية تريد فعلا أن تسهر على تطبيق القانون والأمن العام في سيدي إفني، فيجب أن تحاكم رجالها الذين ظهروا في الشريط وهم يعذبون ويضربون بوحشية مواطنين في الشارع العام خارج كل الأعراف والقوانين الوطنية والدولية.

أما إذا كان الأمن مستحيل التحقق في هذه البلاد بدون هذه «الصرامة» الوحشية، فهناك ما يدعو فعلا للخوف من هذا الأمن الذي يشبه الرعب في صرامته الدموية.

العدد 600 الجمعه 22 اغسطس 2008

جورازيك بلاد

تبث القناة الثانية، الفرنسية طبعا، هذه الأيام سلسلة عنوانها «أرض الضوء» تدور أحداثها خلال فترة الثلاثينات في الجنوب الفرنسي والمغربي. الذين تابعوا الحلقات الأولى لاحظوا بدون شك أن المخرج الفرنسي لم يتعب نفسه كثيرا في إعادة تشكيل الديكور لكي يصور فيه أحداث سلسلته التي تدور خلال خضوع المغرب للحماية الفرنسية. ببساطة لأن الديكور لازال على حاله في مناطق الجنوب التي لم تصلها بعد لا أنابيب الماء الصالح للشرب ولا أسلاك كهرباء بنخضرا.

لذلك فمخرج السلسلة وجد الديكور جاهزا، القرى نفسها التي ظلت صامدة منذ بداية القرن، والرجال يلبسون نفس الأزياء البسيطة، والدواب نفسها التي استعملها الأجداد لازالت تستعمل كوسائل نقل في طرق وعرة لم تصلها بعد معاول كريم غلاب.

عندما نسمع البعض يربط حصيلة تصوير الأفلام الأجنبية في المغرب، والتي وصلت خلال هذه السنة 850 مليون درهم، بالتقدم الحاصل في إدارة الشأن السينمائي المغربي، نفهم أن هناك من يريد أن ينسب الأشياء إلى غير أصلها. فإذا كانت شركات الإنتاج السينمائية العالمية تفضل القدوم إلى المغرب، فليس لأن المركز السينمائي المغربي يوفر أستوديوهات ومعدات تقنية متطورة للتصوير، ومختبرات رقمية لمعالجة الصور بأحدث المؤثرات الصوتية والمشاهد الخاصة، أو ممثلين عالميين يستطيعون أن ينتزعوا أدوار البطولة إلى جانب نجوم السينما العالمية، ولكن لأن هؤلاء المنتجين والمخرجين يختارون المغرب لتصوير أفلامهم لأنهم ببساطة شديدة يرونه على هيئة أستوديو كبير من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه. فالمغرب بمدنه غير مكتملة البناء، وأحيائه العشوائية وطرقه المحفرة وحركة سيره الفوضوية، يعطي إمكانية تصوير كل السيناريوهات التي يمكن أن تأتي على بال أكثر المخرجين جنونا.

إذا كنت تريد تصوير فيلم عن حياة المسيح عليه السلام، فالأمر في غاية السهولة. فنواحي وارزازات تشبه كثيرا أرض المقدس في فترة ظهور المسيح. والناس لازالوا يلبسون الثياب نفسها التي كان يلبسها حواريو المسيح. وهناك قبائل في نواحي وارزازات والراشيدية لازال سكانها يعتبرون الحذاء ترفا لا يناله إلا المحظوظون، والأطفال هناك يتراكضون بين أزقة الدوار المتربة حفاة شبه عراة.

أما بالنسبة للكومبارس فالأمر سهل، فعندما ترى الممثلين المغاربة الذين يظهرون في التلفزيون خلال رمضان دفعة واحدة، يتجولون في وسط العاصمة مطلقين لحاهم، فيجب أن تفهم أنهم يستعدون للنزول إلى وارزازات للعب في فيلم حول حياة المسيح. فأتباع سيدنا عيسى كانوا كلهم ملتحين، وممثلونا يبدو أنهم لا يحبون اللحى المستعارة ولذلك يشاركون في هذه الأفلام بلحاهم الأصلية. هكذا بالإضافة إلى توفير تعويضات ساعات العمل يوفرون ثمن شفرات الحلاقة أيضا.

والمغرب ليس فقط أستوديو مفتوحا من عند الله يمكن أن تصور فيه حياة الأنبياء والمرسلين جميعا دون أن تكون محتاجا لتحريك شجرة واحدة من مكانها، وإنما يمكن اعتباره هوليود قائمة بذاتها.

ولا نستغرب إذا عرفنا أن أغلب الأفلام الأمريكية التي نزلت إلى القاعات مؤخرا حول الحرب في العراق تم تصويرها في المغرب. وفي سلا كان كافيا بالنسبة للمخرج الأمريكي أن يرسم صورة صدام حسين وهو يلوح ببندقيته في الهواء على حائط أحد الأحياء بسيدي موسى، لكي يتحول الحي بقدرة قادر إلى أحد الأحياء الخربة في النجف الأشرف. وقبله وجد مخرج أمريكي آخر أن بعض أحياء سلا تشبه الصومال، فصور فيها جزءا من أحداث فيلمه «سقوط الطائر الأسود».

وهذا يذكرنا بتلك النكتة التي تقول أن الرئيس الأمريكي طلب صورا جوية لبعض البلدان الإسلامية ومنها المغرب، وعندما أتوه بالصور الجوية لبعض المدن والقرى المغربية تأملها ثم قال لهم غاضبا :
- ياك كلنا ليكم غير صوروها، علاش ضربتوها...

وفي مراكش اكترى أحد المخرجين حيا في الداوديات لكي يصور فيه مشهدا في فيلم حول مدينة عراقية تشهد مواجهات بين المقاومة والأمريكيين، بعد أن وجد أن بيوت هذا الحي هي الأكثر شبها بأحياء بغداد المثقوبة بالرصاص والقذائف.

وفي الدار البيضاء، المدينة الأكثر حداثة في المغرب، حول أحد المخرجين الأجانب واجهة فندق لينكولن سابقا إلى أحد أحياء بيروت خلال الحرب الأهلية، فقط بوضعه لدبابة وبضع سيارات محترقة في الشارع. فأصبح شارع محمد الخامس شبيها بشارع القناصة في بيروت خلال الثمانينات.

أما في طنجة فقد حول أحد المخرجين بمعية الممثل العالمي «مات ديمون» أسطح بيوت مدينتها القديمة إلى ساحة مواجهة بين البطل ومطارديه الأشرار، دون أن يحتاج إلى بناء ديكور لتصوير المتاهات التي سيضيع عبرها البطل، لأن أزقة طنجة القديمة مصنوعة أصلا على شكل متاهة. وهي المتاهات نفسها التي طارد عبرها أشرار آخرون العميل «جيمس بوند» في نسخه الأولى سنوات السبعينات. ونفس المتاهات أيضا التي صور فيها بيرناردو بيتولوتشي فيلمه «شاي في الصحراء»، الذي كتب قصته بول بولز، والذي لم يغادر بالمناسبة بيته بتلك المتاهات الضيقة بقلب طنجة إلى أن مات.

أما في الرباط فقط أخلت وزارة المالية مقرها للمخرج ريدلي سكوت والذي وجد أنها تصلح لتكون في فيلمه «جسد الأكاذيب» من بطولة «ليوناردو دي كابريو»، مقرا لمركز المخابرات الأردنية. بينما اختار المخرج واجهة مقر وكالة المغرب العربي للأنباء لكي يستعيض به عن مشاهد طواف الحجاج المحرمين حول مكة. وطبعا فقد استعان المخرج بأقواس الوكالة للتمويه لكي يعطي الانطباع بأن اللقطة تدور في مكة وليس أمام مقر وكالة الخباشي. وجلس المواطنون على رصيف المقاهي المقابلة للوكالة يتأملون هؤلاء الحجاج بلباس الإحرام الذين يطوفون على الرصيف. من حسن حظ الخباشي مدير الوكالة (وكالة الأنباء وليس وكالة الاستخبارات الأردنية) أن اللقطة لم تكن تتضمن رمي الجمرات.

المهم أن المغرب يصلح لتصوير أفلام الحرب الأهلية في الصومال ولبنان، كما يصلح لتصوير الاحتلال العسكري لأفغانستان والعراق، دون أدنى حاجة لتعديل الديكور. وإذا ابتعدت عن شوارع المدن وأحيائها غير مكتملة البناء وذهبت إلى المغرب العميق، فيمكن أن تدخل في العصر الوسيط بسهولة، وتجد مواطنين لازالوا يعيشون عصر اكتشاف العجلة. كما يمكنك أن تكتشف مغاربة لازالوا يعيشون عصر الالتقاط وآخرون يعيشون العصر البرونزي وعصر اكتشاف النار. وإذا توغلت في قرى الأطلس بنواحي تونفيت وأنفكو وبومية فيمكن أن تستنشق نسائم العصر الجوراسي الأول، ولا غرابة في ذلك، فجد الديناصورات عاش في تلك الأعالي قبل ملايين السنين. ومن سوء حظ هذا الديناصور أن عظامه وقعت بين أيدي وزير الطاقة والمعادن السابق بوثعلب (بوطالب بالفرنسية) والذي لم يتردد في جمعها في كيس وإنزالها إلى قبو في الوزارة، بعد أن كان هيكل الديناصور يقف منتصبا في مدخل الوزارة.

ولو كان لدينا منتج مقتدر يستطيع أن يرصد ميزانية ضخمة لإنتاج فيلم عالمي حول المغرب اسمه «جورازيك بلاد» على وزن «جورازيك بارك» لسبيلبرغ، لأصبح المغرب مشهورا ليس فقط بإمكانياته الطبيعية المذهلة، ولكن أيضا بديناصوراته الخرافية التي لا تريد أن تنقرض.
عندما نتأمل لائحة صادرات المغرب نكتشف أن المغرب يحتل الرتبة الأولى عالميا في تصدير بعض المنتجات التي لا دخل للإنسان فيها.

فهي كلها منتجات طبيعية وهبها الله تعالى لهذه البلاد، والإضافة الوحيدة التي يقوم بها المغرب هو أنه يستخرجها ويبيعها خاما في الأسواق العالمية. وعلى رأس هذه المنتجات نجد الفوسفاط والأسماك والغاسول والخروب والحلزون والحمير والصابون البلدي والحرمل والشبة وزيت الهندية وزيت أرغان. وكل هذه المعادن والنباتات والثمار والحيوانات موجودة في أرض المغرب قبل ظهور الإنسان على وجهها.

واليوم نرى كيف يريد البعض أن ينسب ارتفاع مداخيل تصوير الأفلام الأجنبية في المغرب إلى التقدم الحاصل في إدارة الشأن السينمائي الوطني. والحال أن ما يجذب المنتجين الأجانب نحو المغرب هو توفره على مدن تصلح لتصوير الفوضى والحروب الأهلية والمواجهات الحربية بأقل التكاليف الممكنة، وتوفره أيضا على بعد مائة كلم من المدن على العصور التاريخية كلها بدءا من العصر الطباشيري والعصر الحجري، وربما حتى العصر الغبري، أي ذلك العصر الذي سبق تكون الحجر ولم يكن سائدا فيه سوى الغبرة. وهذا اجتهاد جيولوجي من عندي طبعا.

ثم إن أهم شيء يجذب المنتجين السينمائيين الغربيين نحو المغرب هو أنهم يضمنون في السنة 365 يوما من التصوير كلها شمس. الشيء الذي لا يمكن أن يعثروا عليه في بلدانهم التي عليهم أن يقطعوا فيها التصوير في كل مرة تهطل فيها الأمطار، ولا أحد يعرف متى ستنحسر. ولا شك أنكم تعرفون كم يكلف كل يوم تصوير ضائع من ميزانية فيلم تصل تكلفته إلى ملايين الدولارات.

العدد 599 الخميس 21 اغسطس 2008

دموع الجنرال

لعل أحسن من تفوق في إعطاء صورة واضحة عن ألعاب القوى المغربية في بكين هو العداء المغربي حشلاف الذي سقط في الدورات الأولى حول مضمار السباق، وتوقف لكي يعدل من خيوط حذائه الرياضي، فكان آخر متسابق يصل إلى خط النهاية. وهو بذلك يبقى وفيا للرتبة الأخيرة التي سبق له أن حصل عليها في دورة باريس لألعاب القوى سنة 2003.

لحسن الحظ أن العداءة حسناء بنحسي، التي سبق لها أن صرحت أنها تدربت رفقة زوجها بإمكانياتها الذاتية، فعلت كل ما بوسعها لكي تحرز ميدالية برونزية، رأينا بفضلها علم المغرب يرفرف أخيرا في «عش الطيور».

ولعل مدربي الفرق المشاركة في منافسات الأولمبياد، ورئيس جامعة ألعاب القوى ووزيرة الشباب والرياضة مدعوون جميعا إلى تأمل موقف مدرب البطل الأولمبي الصيني «ليو كسيانغ» وبطل العالم في سباق 110 أمتار، الذي قدم اعتذاره للشعب الصيني يوم الاثنين الماضي بسبب تخلي «ليو كسيانغ» عن الدفاع عن لقبه بسبب ألم شديد في قدمه.

وعندما انتهى المدرب من تقديم اعتذاره، غرق في نوبة عميقة من البكاء. هذا مدرب صيني يعتذر ويختنق في دموعه بسب عدم قدرة بطله على الدفاع عن لقبه العالمي في أولمبياد تحتل فيه الصين المرتبة الأولى من حيث عدد الميداليات الذهبية، الفضية والنحاسية المحصل عليها.

من قرأ الأدب الصيني وشاهد السينما الصينية، سيفهم من دون شك لماذا اعتذر المدرب وانخرط في البكاء بسبب تضييع ميدالية إضافية على الصين في الأولمبياد. فالصينيون ينتمون إلى ثقافة آسيوية تعتبر الفشل أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان. ولذلك ترى الصينيين مهووسين بالعمل والإتقان، منتبهين إلى تلك التفاصيل الدقيقة التي نعتبرها نحن تافهة، في الوقت الذي بدونها يفقد العمل أحيانا قيمته وجماليته.

المغرب ليس دولة وليدة الأمس، بل إننا نحتفل اليوم بالذكرى 1200 لتأسيس المملكة. ولذلك فالمشاركة المخجلة للوفد المغربي في بكين والتي قدمت المغرب كدولة نكرة لم يسمع أحد صدى نشيدها الوطني، ذلك النشيد الذي طالما تردد في الألعاب الأولمبية السابقة، تستدعي أن يقدم جميع المسؤولين والمدربين الذين رافقوا الوفد اعتذارهم إلى الشعب المغربي على هذه الهدية السخيفة التي قدموا له بمناسبة الذكرى 1200 لتأسيس مملكته.

عليهم أن يكفوا عن إلصاق هزائمهم بالحكام، فليس من الطبيعي أن يكون كل حكام العالم لديهم مشاكل مع «الأبطال» المغاربة وحدهم من دون خلق الله أجمعين. المشكلة فينا وليست في الآخرين. علينا أن نفهم هذا جيدا.

إن مشكلتنا الأساسية هي أننا نفتقر إلى الرؤية المستقبلية في كل القطاعات. وما حدث في بكين ليس سوى صورة مصغرة للطريقة العبثية والمزاجية التي تسير بها مجموعة من القطاعات. نريد أن نستعد في ظرف ثلاثة أشهر لكي نذهب إلى الأولمبياد ونأتي بالذهب. نريد أن نضع خطة لإصلاح التعليم في ستة أشهر ثم نطبقها وننتظر نتائجها في العام الموالي، وقد نغيرها في الطريق بأخرى حتى دون أن ننتظر نهاية العام. نريد أن نجلب الاستثمار الأجنبي وشركات الخدمات، وعندما يأتي المستثمرون نعطيهم الأرض بالمجان، ثم نكتشف أننا لا نتوفر على المهندسين الضروريين لتغطية حاجيات هؤلاء المستثمرين. فنتذكر أن علينا أن نكونهم، ونعد بتخريج عشرة آلاف مهندس في القريب العاجل. نريد أن تكون لنا مكتبة وطنية بمواصفات دولية، كتلك التي تنتظر التدشين في الرباط، وعندما ننتهي من بناء الأروقة والمدرجات والقاعات والرفوف، نكتشف أن وثائق المملكة النادرة أغلبها تم نهبه. وكل ما تبقى من الخزانة الوطنية السابقة لا يكفي لملء رف واحد من رفوف المكتبة الجديدة. نريد أن يكون لنا متحف وطني يجمع تاريخنا وتاريخ أجدادنا، وبينما ينتظر الجميع نهاية هذا الورش، يستغرب البعض بماذا ستملأ وزارة الثقافة أروقة المتحف مادامت لا تتوفر على مجموعة فنية واحدة.

نريد أن نخلق مناطق صناعية لتشجيع المستثمرين الأجانب، ثم نعود فنكتشف أن المغرب يستورد تسعين بالمائة من حاجياته للكهرباء من الخارج، وأن المغرب ضيع وقتا ثمينا عندما لم يفكر قبل عشرين سنة في الطاقة البديلة، ثم يشرع المكتب الوطني للكهرباء في توزيع برنامج ومواقيت قطع الكهرباء عن أحياء المدن.

وحتى عندما تضعنا تقارير المنظمات الدولية في مؤخرة الترتيب، يخرج المندوب السامي للتخطيط لكي يكذب كل ذلك، ويطلب من منظمة «البنود» أن تغير معلوماتها بشأن المغرب، فالمغرب بلد متقدم. والرتبة المتأخرة التي تضعنا فيها هذه المنظمات راجعة إلى كون المغرب يعطي معلومات حقيقية حول نموه واقتصاده، وليس مثل البلدان الأخرى التي تزور هذه المعلومات. وعلى هذا الأساس فترتيبنا العالمي هو الرتبة 15 وليس 127 كما تتهمنا هذه المنظمات. وهكذا إذا تبعنا الحليمي في تبريراته فإننا سنكتشف أن المغرب يوجد في مرتبة أحسن من اليابان وألمانيا. وهذا ما يسمونه في العلوم السياسية بنظرية المؤامرة. فالمغرب متقدم ومزدهر، مشكلته الوحيدة هي أنه محسود من طرف جيرانه الذين يتآمرون عليه طيلة الوقت.

مشكلتنا الحقيقية أننا دائما نضع العربة أمام الحصان، ثم نستغرب كيف أن الأمور لا تسير، وفوق هذا وذاك نجلد الحصان ونتهمه بعرقلة السير. إننا نتصرف بعقلية ذلك المقاول الغبي الذي عندما تتوقف إحدى حافلاته يغير الركاب، ولا يفكر أبدا في تغيير قطع غيار حافلته المعطوبة.

لذلك فما يلزمنا اليوم، وبشكل مستعجل، هو الإيمان الراسخ بأن خلاصنا كشعب وكدولة وكنظام يمر حتما عبر التخطيط بعيد المدى. أي ببساطة شديدة أن نتخلى عن رؤية ما تحت أقدامنا، وأن نمد البصر نحو المستقبل.

علينا أن نفهم أن إصلاح التعليم هو الحل، وأن نتائج هذا الإصلاح لن تظهر السنة المقبلة أو حتى خلال الخمس سنوات المقبلة. بل علينا أن ننخرط في هذا الإصلاح وندفع ثمنه مهما كان باهظا ثم ننتظر عشرين سنة المقبلة لكي نرى نتائجه. بمعنى أنه علينا أن نضحي بكل هذه السنوات من أجل الحصول على جيل جديد في المستقبل لديه تكوين علمي يؤهله للبقاء.

إن الثروة الحقيقية للمغرب ليست هي الفوسفاط أو السمك أو السياحة أو حتى تحويلات المهاجرين التي وصلت هذه السنة إلى 279 مليار دولار. فهذه ثروات من الممكن أن تنضب غدا أو بعد غد. الفوسفاط يمكن أن ينهار أمام المنافسة المصرية القادمة في الطريق، والتي تنتج الفوسفاط بتكلفة أقل من المغرب وبالتالي ستبيعه بسعر أقل من السعر الذي يقترحه المكتب الشريف للفوسفاط. السياحة يمكن أن تغير وجهتها لأكثر من سبب، وما نزول مؤشرات السياحة في المغرب في الفترة الأخيرة إلا مثال واضح على هشاشة هذه الصناعة التي تعتبر المراهنة عليها بشكل كبير في اقتصاديات الدول من باب المجازفة.

تحويلات المهاجرين التي ظل يعتبرها المغرب بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، يمكن أيضا أن تعرف مسارا آخر. خصوصا مع الجيل الثالث من أبناء المهاجرين الذين يفضلون أكثر استثمار مدخراتهم في بلدان إقامتهم. على ماذا يجب أن يعول المغرب خلال العشرين سنة المقبلة إذن. وما هي ثروته الحقيقية التي يجب أن يحرص عليها من التبذير والنزيف. ثروة المغرب هم أبناؤه. أدمغته التي تهاجر كل يوم نحو بلدان الآخرين. الأدمغة والأطر المغربية تحتل الرتبة الأولى ضمن لوائح المهاجرين في كندا مثلا.

نسبة كبيرة من خريجي المدرسة الحسنية للمهندسين تختار كل سنة أن تغادر نحو فرنسا وأمريكا وكندا.

أطباؤنا وأساتذتنا الباحثون في الفيزياء النووية والبيولوجيا وعلوم الأرض والتخصصات العلمية الدقيقة يجمعون ملفاتهم وشواهدهم ويسجلون أنفسهم في مختبرات البحث ومستشفيات وجامعات العالم المتقدم.

هؤلاء هم المادة الرمادية لهذا الدماغ المغربي التي تضيع في الطريق. وهذا أخطر ما يهدد مستقبل المغرب خلال العشرين سنة المقبلة. لأنه إذا استمر النزيف بهذا الشكل سيجد المغرب نفسه مجبرا على استيراد الأطباء والمهندسين والأساتذة الجامعيين لسد حاجياته العلمية. وسنكتشف أننا عدنا بالمغرب إلى ما كان عليه بعد الاستقلال مباشرة، حينما فتح المغرب ذراعيه للأساتذة والأطباء والأطر من أوربا الشرقية وفرنسا لكي يكونوا أبناء المغاربة الخارجين توا من الحماية.

إن مستقبل المغرب يمر حتما عبر التربية والتعليم والبحث العلمي. لدينا الأدمغة اللازمة، ولدينا الرغبة في البحث والتكوين، ما يلزمنا هو الإرادة السياسية الواضحة لتشجيع قيم البحث والعلم والاجتهاد عوض قيم الغش والكسل والتجهيل التي تمت رعايتها بحرص شديد طيلة ثلاثين سنة الماضية.

لذلك يجب علينا جميعا أن نستوعب درس بكين جيدا. وأن نكف عن البحث عن مشاجب لتعليق الأخطاء. وأول شيء يجب أن يقوم به الرياضيون المغاربة هو الذهاب منذ الغد إلى حلبات التدريب للاستعداد لأولمبياد لندن. وطبعا نفترض أن الجنرال حسني بنسليمان وزبانيته سيقدمون استقالتهم من تسيير الرياضة الوطنية بعد أن أوصلوها إلى حافة الإفلاس. ونحن طبعا لا نطلب منهم أن يذرفوا الدموع أمامنا معتذرين مثلما صنع المدرب الصيني، فالمغاربة من شدة ما لدغوا من الجحر نفسه أكثر من مرة عادوا لا يثقون مطلقا في دموع التماسيح.

دبلوماسية الخرفان

للمغاربة أشكال طريفة ومدهشة، وأحيانا مخيفة في التعبير عن احتجاجهم. بعد استنفاد جميع أشكال الاحتجاج من طرف المعطلين في شوارع الرباط، من شرب للبنزين ومسحوق سم الفئران واقتحام الوزارات وإضرام النار في الأجساد، اهتدى معطلو التجمع المغربي للأطر العليا المعطلة إلى فكرة جهنمية لإفساد المهرجان الموسيقي الذي تنظمه اتصالات المغرب وسط العاصمة. فظلوا يحضرون معهم طيلة ثلاث أمسيات الأدوات المنزلية من«المقالي» و«الطناجر» ويشرعون في العزف عليها موسيقاهم الاحتجاجية الخاصة.

وبالإضافة إلى العزف على «الطناجر» نظم المعطلون على شرف زوار العاصمة وسياحها معرضا متجولا لآخر اللوحات التشكيلية التي رسمتها عصي قوات الأمن والقوات المساعدة. وبعضهم يحمل صراحة على جسده لوحات تشكيلية غاية في السريالية، بحيث أن سالفادور دالي نفسه لو شاهدها لظل واقفا أمامها فاغرا فاه من شدة تجريدها، نسبة إلى التجريد من الإنسانية وليس إلى الفن التجريدي طبعا.

فما دام متحف الفنون الجميلة الذي دشنه الأشعري وزير الثقافة السابق أكثر من ثلاث مرات، دون أن يظهر هناك من أمل في عهد وزيرة الثقافة الجديدة يبشر بقرب فتح أبوابه في السنوات المقبلة، فإن المعطلين سيتكفلون بتعويض زوار العاصمة وسياحها عن هذا النقص الفني الكبير، وذلك بتحويل أجسادهم إلى لوحات معروضة في الهواء الطلق. وحسب ألوان وآثار الضرب التي تتركها قوات الأمن، بفنية عالية، على أجساد هؤلاء المعطلين، فيمكننا الجزم بكل تأكيد، وهذا ما لن يخالفنا فيه نقاد الفنون التشكيلية، بأن المدرسة التشكيلية التي تنحدر منها قوات العنيكري والشرقي أضريس هي المدرسة التكعيبية. ومن كثرة ما كعبوا المعطلين والمحتجين أمام البرلمان، فإن بيكاسو نفسه لو كان حيا وشاهد كيف يرسم هؤلاء التكعيبيون الجدد لوحاتهم على أجساد المواطنين، لنسي لوحته الشهيرة حول الحرب الأهلية الإسبانية، وبدأ لوحة جديدة مستوحاة من حرب العصابات اليومية بين قوات الأمن والمعطلين في شوارع العاصمة.

وإذا كان المعطلون يحتجون على حكومة عباس الفاسي التي تنصلت من كل وعودها الانتخابية التي شيدتها على أكذوبة التشغيل، بالبنزين والطناجير واقتحام مقرات الوزارات وقطع الشوارع في وجه حركة المرور، فإن مهاجرا مغربيا يئس من استرجاع حقه عبر القضاء فلم يجد من وسيلة لإثارة الانتباه إلى مأساته سوى اقتناء كبش صردي بقرنين ملتويين وذبحه أمام مسجد السنة، على بعد خطوات من القصر الملكي بالرباط.

وقد ضمن المهاجر المغربي ظهور صورته إلى جانب أضحيته مرتديا لافتة من القماش تلخص نقط ملفه المطلبي بالإضافة إلى شعار يقول «شكايتي إلى الله وإليك يا أمير المؤمنين»، في وسائل الإعلام المقربة من القصر، والتي سارعت إلى نشر صورته واقفا على رأس خروفه المذبوح فوق عشب حديقة المسجد، وبالتالي ضمن وصول رسالته إلى من يعنيهم الأمر. ويبدو أن الصحافة الرسمية وجدت هذه الطريقة الجديدة في الاحتجاج على العدالة المغربية من الجنة والناس. ما دام الخطاب السائد في هذه الصحافة منذ الخطاب الملكي الأخير هو جلد القضاء يوميا تقريبا، واستضافة سياسيين ومحللين «محنكين» لكي يشرحوا جسد هذا القضاء المتعفن، ويتدربوا في خياطته كل حسب مهارته ومضاء إبره. لذلك فإن قصة هذا المهاجر المغربي الذي استنفد كل درجات التقاضي دون أن يتمكن من استرجاع ما يعتبره حقه، تفيد كمثال حي لشرح مضامين الخطاب الملكي الأخير حول ضرورة إصلاح القضاء.

فأن يلجأ أحد المواطنين إلى تحويل ساحة مسجد السنة القريبة من المشور الملكي إلى مذبح يحز فوقه عنق الكبش من أجل طلب تدخل ملكي لإنصافه، تحول جديد ونوعي في طريقة احتجاج المغاربة وتعبيرهم عن عدم الرضا عن عدالتهم. ولو أن عادة تقديم الأضحية للأعتاب الشريفة لطلب التدخل أو لاستدرار السماح، لم تبدأ مع هذا المهاجر المغربي، وإنما كانت عادة مخزنية قديمة درج على العمل بها في القصور والمجالس السلطانية.

ولعل الإدريسي القيطوني مدير جريدة «لوبنيون» الناطقة بلسان حزب الاستقلال سيتذكر، عندما سيرى صورة المهاجر المغربي واقفا أمام خروفه المذبوح قريبا من باب المشور، موقفا مشابها عاشه قبل عشرين سنة تقريبا.

فلم يكن القيطوني يعرف أنه سيجلب على نفسه غضب الحسن الثاني عندما ترجم رئيس تحريره خالد الجامعي نص بيان أصدرته إحدى الجمعيات الحقوقية التابعة لحزب الاستقلال ونشره على صفحات جريدة «لوبنيون». وكان من نتائج هذا المقال أن رفعت الدولة المغربية دعوى قضائية ضد مدير «لوبنيون» وحكمت عليه المحكمة بعامين سجنا.

ولم تجد كل تدخلات حزب الاستقلال نفعا في تليين حكم العدالة. وكان هناك من أفتى عليهم فتوى نزلت عليهم كالمن والسلوى، وهي أن الشرفاء في ما بينهم لا يحتاجون إلى عدالة الناس العاديين لتسوية مشاكلهم وخلافاتهم. وما دام القيطوني ينتمي إلى الزاوية الإدريسية، فقد تشكل وفد من شرفاء هذه الزاوية نزلوا من فاس وذهبوا إلى المشور الملكي بالرباط واعتصموا فيه لكي يطلبوا الصفح لأحد أبناء زاويتهم على الخطأ الذي ارتكبه في حق الدولة العلوية.

وطبعا كان لا بد من خروف بين أعضاء الوفد، وعندما وصلوا إلى باب القصر ذبحوا الأضحية هناك تعبيرا عن استدرارهم لعطف الحسن الثاني وطلبهم لرضاه ومسامحته.

وهكذا تم طي الملف ولم يذهب الإدريسي القيطوني إلى السجن ولا هم يحزنون. لحسن الحظ أن «دبلوماسية الخرفان» هذه غابت بغياب الحسن الثاني. وها نحن اليوم نكتشف أنها تعود من جديد، وعلى يد مواطن لا ينتمي إلى أية زاوية من زوايا الشرفاء، دون أن يعني ذلك أنه ليس مواطنا شريفا بالضرورة.

ولعل واحدة من أغرب طرق الاحتجاج التي برع فيها المغاربة مؤخرا، هو قيام فرد من أفراد القوات المساعدة بالسير حافي القدمين نحو مركز القيادة بالرباط ليحتج على حرمانه من حقه في الترقية الأخيرة.

ولولا أن هذا المخزني كان يلبس الكسوة العسكرية وهو يسير حافيا لأمكن خلطه بسهولة بأحد مناضلي الحزب العمالي الذي نزل مناضلوه ذات يوم إلى شارع محمد الخامس بقيادة رئيسه بنعتيق حاملين أحذيتهم فوق رؤوسهم احتجاجا على قانون العتبة الذي صوتت عليه الأحزاب الكبيرة لإقصاء الأحزاب الصغيرة من المشاركة في الانتخابات.

ولعل المغرب هو الدولة الوحيدة في العالم التي ترتبط فيها الترقية بالاحتجاج. فالترقية في كل بلدان العالم مناسبة للفرح والابتهاج، إلا عندنا نحن فهي مرتبطة بالمندبة والنواح.

ولازال الجميع يتذكر ترقية البوليس التي كان من نتائجها المباشرة إضراب مجموعة من رجال الأمن عن العمل في وجدة في سابقة تاريخية من نوعها. خصوصا عندما اكتشفوا أن بعض الذين شملتهم الترقية انتقلوا إلى رحمة الله الواسعة، بينما الأحياء ظلوا في رتبهم.
وعندما تم الإعلان عن ترقية رجال القوات المساعدة كشف المخزني حافي القدمين الشجرة التي تخفي غابة الاحتجاجات، فتشكلت لجنة لإعادة دراسة لوائح الترقيات.

أما العسكر، فمنهم من قضى خمس عشرة سنة بدون ترقية بسبب تقارير المكتب الخامس الذي يضع لوائح بأسماء الضباط الممنوعين من الترقية والذين ينتهون في الحاميات العسكرية، والتي تم استثناؤها جميعها هذه السنة من الترقية. وهناك من الضباط من درس عسكريين ودربهم ووصلوا عليه في الرتبة وفاتوه. فأصبح مطالبا بعد أن كانوا يعطونه التحية العسكرية أن يعطيها لهم هو اليوم. فعن أي احترام للتراتبية العسكرية يمكن أن نتحدث هنا.

وطبعا فتقارير المكتب الخامس حول الضباط لا تناقش، كل من «وثقه» المكتب الخامس بتقرير فيمكن أن يقول للترقية وداعا.
وأحيانا تكون التقارير التي تقود بعض العسكر إلى المحاكمات العسكرية تتعلق بنسيان إعطاء التحية لجنرال، أو عدم الاعتدال في الوقفة عند مرور كولونيل. لكن عندما يتعلق الأمر بتزوير في محضر يقوم به التريكي صهر الجنرال حسني بنسليمان فإن المحكمة العسكرية تسمح في حقها وتغمض عينيها.

فالقانون في هذه البلاد معمول لصغار المواطنين ممن ليس لهم شرف الانتساب إلى العائلات الشريفة.

أما المواطنون «الشرفاء» فلهم قانونهم الخاص الذي يحميهم ويحمي أبناءهم من بعدهم.

نتمنى من المحللين «المحنكين» الذين يتحدثون هذه الأيام في صحافة المخزن عن الفساد القضائي على هامش الخطاب الملكي الأخير، أن يعللوا حديثهم عن الفساد القضائي في المملكة بهذا المثال الفاضح للإفلات من العقاب.

لأن صلب النقاش حول الفساد القضائي يتلخص في سؤال واحد وبسيط، وهو هل نحن جميعا في هذه البلاد سواسية أمام القضاء أم لا. الباقي كله مجرد تفاصيل.

العدد 597 الثلاثاء 19 اغسطس 2008

القفز الثلاثي على التاريخ

نهاية الأسبوع الماضي قررت أن أبقى مساء في البيت وأتابع أخبار العالم عبر التلفزيون. واكتشفت أن تعليقات الصحافيين يمكن أن تكون طريفة أحيانا. مثلا عندما يتحدث الصحافي عن عملية عسكرية في العراق اسمها «بشائر الخيرات». هل يمكن أن تحمل عملية عسكرية بشائر الخير. اللهم إذا كان اقتحام البيوت وتصفيد أهلها وطرحهم أرضا، أو ربما تفجير المنزل بمن فيه، يعتبر دليلا من «دلائل الخيرات».
مع الاعتذار لسيدي محمد بن سليمان الجزولي.

لحسن الحظ أن أخبار الرياضة يتركونها إلى آخر النشرة، هكذا يجعلونك تنسى كوارث العالم قليلا وهم يقدمون لك إنجازات الرياضيين وأرقامهم القياسية. وقد أثار انتباهي كون الأشقاء العرب في القنوات الفضائية عندما يتحدثون عن تأهل رياضي مغربي إلى الربع أو نصف النهائي يذكرون اسم المشارك وينسبونه للعرب قائلين «تأهل المشارك العربي كذا في رياضة كذا». وعندما يخسر صاحبنا ينسبونه للمغرب، ويفتتحون تعليقهم هكذا «خسر المشارك المغربي كذا في رياضة كذا». هكذا عندما يفوز مغربي يصبح بطلا عربيا، أما عندما يخسر يرجعونه إلى جنسيته الأصلية.

لكن أهم ما أثارني في آخر مباراة للملاكم المغربي رضوان بورشوق ضد نظيره البرازيلي هو إقدام صاحبنا في نهاية المباراة التي خرج منها منهزما على معانقة خصمه، بل وحمله بين ذراعيه عاليا مثل طفل صغير. عندما رأيت هذه اللقطة فهمت أن الملاكمة المغربية شعرت بالوحدة والغربة في بكين، فبسبب خروج كل الملاكمين مهزومين اشتاق أغلبهم إلى عيش لحظة فرح صغيرة، فلم يجد بورشوق بدا من طلب»اللجوء العاطفي» عند خصمه، فاحتضنه واقتسم معه فرحة فوزه عليه.

وربما كانت هذه الحركة التي قام بها الملاكم المغربي وهو يعانق خصمه الذي بقي مشدوها أمام هذه «الروح الرياضية» العالية للمغربي، فيها رسالة إلى جامعة الملاكمة واللجنة الأولمبية التي جاءت باللاعبين المغاربة وهم في كامل كسلهم العضلي. فربما أراد أن يشمت فيهم جميعا وهو يرفع خصمه البرازيلي عاليا ويقتسم معه فرحته. وكأنه يقول لهم «نعم لقد هزمني وهو يستحق نصره لأنه استعد أحسن مني للألعاب الأولمبية، وليست لديه جامعة للملاكمة كتلك التي لدينا ولم يأت إلى بكين في وفد نصفه لا علاقة لهم بالرياضة كالوفد الذي جاء معنا».

لسوء حظ المغرب أن اللجنة الدولية للألعاب الأولمبية لم تضف بعد إلى منافساتها رياضة «القفز على الحقائق». وإلا لكانت نوال المتوكل قد أنقذت المغرب بحصولها على ميدالية الشرف في هذا النوع الرياضي. فرغم كل الإخفاقات التي مني بها الوفد المغربي ورغم خروجه في بعض المباريات بصفر نقطة، كما هو حال ذلك الملاكم الذي منذ أن صعد إلى الحلبة وهو يغطي وجهه بذراعيه ويتلقى الضربات مثل كيس رملي، فإن نوال المتوكل وصفت الحصيلة الرياضية للوفد المغربي في منافسات بكين بالمشرفة. يا إما أن نوال المتوكل لا تفهم المعنى اللغوي للتشريف في القاموس العربي، وهذا مستبعد رغم أنها استغلت حضورها في بكين للدفاع عن اللغة الفرنسية كلغة للأولمبياد، ويا إما أنها تريد أن تحجب الشمس بالغربال، وهذا مخجل.

ويبدو أن الحفل الراقص الذي نظمته نوال في سفارة المغرب ببكين على شرف الوفد الرياضي والرسمي المشارك في الأولمبياد، قد أنساها مرارة الفشل الذي حصده المغرب في كل المنافسات الرياضية. خصوصا وأن نوال المتوكل والجنرال حسني بنسليمان ظهرا كمن يريد «تسبيق العرس بليلة»، فنظموا حفلا رسميا لتكريم «أبطال» لم يصمد أغلبهم فوق حلبات المواجهة أكثر من مقابلة. وقد كانت فكرة السفير مسلية عندما أحضر راقصات صينيات وألبسهن تاملحافت وصباط الطالون ورقصن أحواش على شرف المدعوين. أحد المغاربة علق وهو يرى كيف تجيد تلك الصينيات رقصة أحواش، بأننا لن نستغرب إذا سمعنا إحدى هؤلاء الراقصات تغني إحدى أغاني الحاجة الحمداوية.

لا أعرف لماذا أعادتني شكوى أحد لاعبي الجيدو المغاربة من كونه لا يتوفر حتى على «السبارادرا» التي يضمد بها أصابعه، بصورة سبق وأن رأيناها في ألعاب كوريا الأولمبية السابقة، عندما رأى الجميع كيف أن أحد رافعي الأثقال المغاربة كان ينتظر عندما يأتي دوره للتباري أن يسلمه أحد زملائه المشاركين الأجانب «السمطة» الجلدية التي يحزم بها وسطه، لأن جامعته أرسلته بدون حزام ولا مستلزمات رياضية.
كما ذكرتني بلقطة أخرى لأحد لاعبي الجيدو المغاربة في منافسة دولية رموا له بذلة الكيمينو إلى الحلبة لكي يلبسها بعد أن قرر الحكم أن بذلته التي جاء ليشارك بها لا تستجيب إلى المعايير القانونية نظرا لقصر أكمامها. ولسوء حظ لاعب الجيدو المغربي فإن الكسوة التي رموا له كانت أقصر، فوقف أمام الحكم وأمره بمد ذراعيه لكي يرى أين تصل الأكمام، فانحسرت الأكمام إلى الوراء وأصبحت «كسوة نص كم»، فأقصاه الحكم ومنح الفوز لخصمه الذي لم يكن محتاجا لمنازلته.

وهذا يذكرنا بأولئك الذين كانوا يأتون إلى الحمام بدون معدات ويريدون الاستحمام «بيليكي» على ظهور عباد الله. فيطلبون من المستخدم أن يمنحهم غرسون نسيه أحدهم ، ويدخلون بأيديهم فارغة. فهذا يأخذون منه الشامبوان، وذاك يأخذون منه الصابون، وآخر يطلبون منه أن يحك ظهورهم. وفي الأخير يلتقطون ماكنة حلاقة تخلى عنها أحدهم ويكرطون وجوههم وأماكن أخرى ويخرجون لينشفوا ويلبسوا نفس الثياب التي كانت على ظهورهم.

عندما تعبت من تتبع أخبار «أبطالنا» في الأولمبياد عبر قنوات أشقائنا العرب الفضائية، يممت وجهي شطر العقلانية الأوربية وقفت عند القناة الفرنسية الخامسة. وكم ضحكت لوحدي في البيت مثل مجنون وأنا أرى فيلما حول قصة توأمين في العهد الفرعوني. ويحكي الفيلم عن قصة توأمين كتبا رسالة إلى الفرعون يشتكيان إليه ضياع حقهما في الإرث بعد تخلي والدتهما عنهما واغتيال والدهما في مؤامرة دبرتها أمهما مع عشيقها الشاب.

سبب الضحك ليس قصة الفيلم الفرنسي، فالقصة مشوقة. وإنما كون أحداث الفيلم تدور في العهد الفرعوني القديم، على أرض النيل الأزرق. غير أنه من خلال الصور نكتشف أنه مصور في وارزازات. والفراعنة والعبيد والتجار والسبايا كلهم مغاربة. هكذا نكتشف وجه يونس ميغري في دور كاتب عمومي في العصر الفرعوني، وخلود البطيوي في دور الزوجة الخائنة التي تآمرت مع عشيقها، الذي ليس شخصا آخر غير الممثل بهلول، لقتل زوجها، الذي ليس شخصا آخر غير الممثل خيي.

ستقولون لي أين المشكلة، مادام المخرجون السينمائيون غير مطالبين بتصوير أفلامهم في نفس الأماكن التي تدور فيها قصص هذه الأفلام، وإلا لماذا تصلح الأستوديوهات أصلا.

المشكلة هي أن خيي عندما قتله بهلول بتواطؤ مع عشيقته خلود البطيوي، ثم حنطوه وكفنوه، سمعنا صوت الطلبة وهم يقرؤون سورة يسن عليه. وكان صوت الطلبة يطغى على صوت المعلق الفرنسي الذي كان يشرح كيف أن جثة الموتى في العصر الفرعوني كانت تترك في الصحراء إذا لم يكن مع عائلته مصاريف لتغطية تكاليف مراسيم الجنازة الباهظة.

ولعل المثير في هذه الحكاية هو أننا لأول مرة في تاريخ العلوم والآثار الفرعونية نكتشف أن القرآن نزل قبل الإنجيل، وأن الفراعنة كانوا مثل المسلمين تماما يحضرون الطلبة لكي يقرؤوا ما تيسر من الذكر الحكيم على جنازة موتاهم. بقي فقط أن نرى المعزين الفراعنة وهم جالسين حول «قصاعي الكسكسو بسبع خضاري».

والظاهر أن الفرنسي مخرج الفيلم لا يقشع في الدارجة واللغة العربية شيئا، ولذلك طلب من الممثلين والكومبارس المغاربة أن يثرثروا فيما بينهم بالدارجة المغربية، لأن حواراتهم على كل حال ليست سوى «ثرثرة فوق النيل» لتأثيث الصور. مع الاعتذار لنجيب محفوظ.
وهكذا سمعنا لأول مرة مصريين يعيشون في العصر الفرعوني يعبدون الله من دون الفرعون ويسبحون باسمه قرونا طويلة قبل ظهور المسيحية والإسلام ويقولون «لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم». وليس هذا فحسب، فمن خلال لقطة في أحد الأسواق الفرعونية نستطيع أن نلمح أحد الكناويين وهو جالس يعزف على هجهوجه ويحرك رأسه كما يصنع كناوة في مهرجان الصويرة.

لا شك أن علماء الآثار المصرية والباحثين المتخصصين في علم الأهرامات، سيجدون صعوبة كبيرة في فهم حضور الطلبة وسورة يسن والهجهوج والكناوي، في عصر الفراعنة. لكن بما أن الفيلم تم تصويره في المغرب، فإن الدهشة تزول، وعلى المخرج الفرنسي أن يحمد الله لأن مخرجيه المساعدين والممثلين والكومبارس المغاربة لم يدسوا له بين مشاهد الفيلم صورة أحد أعمدة الكهرباء التي يعلقون فيها صور الملك محمد السادس.

فنحن أبطال لا يشق لنا غبار في خلط الأوراق والحقب والتواريخ والأزمنة. ولو أن اللجنة الدولية للأولمبياد فكرت يوما في تخصيص مسابقة للقفز الثلاثي على الحقب التاريخية، دون قراءتها طبعا، لكنا أول من يحرز ميدالية ذهبية في هذا الصنف الرياضي.

للأسف لم يولد بعد من يفهمنا جيدا في هذا العالم.

العدد 596 الاثنين 18 اغسطس 2008

الدبلوماسية «النشيطة»

حسب قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية نشرتها الصحافة في عدد الأمس، نقرأ أن المحامي السويسري اتهم سلطات طرابلس باحتجاز والدة وشقيق موكله «رهينتين» في ليبيا». وأضافت الجريدة في مقالها أن السلطات الليبية عمدت إلى اعتقال والدة وشقيق الخادم المغربي من أجل الضغط عليه لتقديم تنازل عن الدعوى، في حين لم يصدر عن الدبلوماسية المغربية أي موقف بهذا الخصوص بعدما اعتبر المجلس الأعلى للجالية أن الملف ليس من اختصاصه.

وكتبت جريدة الوزير الأول، الذي توجد وزارة الخارجية ضمن وزارات حكومته، أن طرابلس تواصل اعتقال الأم المغربية لممارسة الضغط، وأن «الأشقاء» الليبيين يشترطون سحب شكاية الخادم المغربي والخادمة التونسية ضد ابن العقيد القذافي لإطلاق سراح الأم وابنها.
لكن الصحافة الرسمية الصادرة يوم الجمعة، وصحافة «المخابرات المغربية»، لديها رأي آخر في الموضوع. فوالدة وأخ السائق المغربي الذي اتهم نجل معمر القذافي بإساءة معاملته في سويسرا، لم يكونا معتقلين في جماهيرية العقيد الديمقراطية العظمى، ولم يتعرضا لأية إساءة أو تعسف من قبل السلطات الليبية. والدليل على ذلك هو أنهما وصلا إلى المغرب ليلة الأربعاء آمنين مطمئنين.

وأضافت الصحافة الرسمية، متهمة في الطريق كل الصحافيين الذين عابوا على الدبلوماسية المغربية صمتها بخصوص هذه القضية بأنهم ينشرون المغالطات، بأن «هناك تقليدا شكل دوما إحدى دعامات الدبلوماسية المغربية وهو السرية في التعامل والتي هي السمة المميزة للعمل وكفاءته».

لدي سؤال بسيط جدا أرجو أن يتسع له صدر هؤلاء المهللين بهذا النصر الدبلوماسي «السري» الباهر. إذا لم تكن والدة وأخ الخادم السابق لحنيبعل القذافي قد تم اعتقالهما في ليبيا، فلماذا تحركت «الآلة الدبلوماسية المغربية الفعالة» في طرابلس، وأية قضية حساسة هذه التي اشتغلت الدبلوماسية المغربية عليها بسرية إلى أن توصلت إلى حل مشرف حولها من «الأشقاء» الليبيين. لا دخان بدون نار. إذا كانت الدبلوماسية المغربية قد تحركت في سرية كاملة، بدون بيانات أو بلاغات كما يحدث في كل الدول الديمقراطية، وتدخلت لدى سلطات طرابلس خلال الأيام الأخيرة، فلأن مشكلا دبلوماسيا وقع بين البلدين، وإلا ما الداعي إلى التحرك بكل هذه «السرية» و«الفعالية» في هذه العطلة الحكومية. بل ما الداعي إلى رجوع الأم وابنها إلى المغرب في هذه الفترة بالضبط ماداما يعيشان بسلام في جنة العقيد الديمقراطية العظمى.

إننا نعرف خروب بلادنا جيدا، ونعرف أن المخابرات المغربية تستطيع أن تجعل والدة خادم ابن الرئيس تقول أمام العالم بأسره أنها لم تكن معتقلة هي وابنها في مكان سري عند العقيد، وأنها كانت معززة مكرمة في ضيافة قائد الثورة. وليس هذا فحسب، يمكنهم أن يجعلوها تعترف بأن ليبيا أجمل بلد في العالم وأن المهاجرين المغاربة يتمتعون بحقوق لا يحلم بها أشقاؤهم في سويسرا نفسها، وأن السلطات الليبية وحرصا على سلامتها نقلتها إلى فندق خمس نجوم محروس بفريق خاص من حرس الثورة عندما انتهى إلى علمهم أن ابنها وضع شكاية ضد ابن الرئيس في سويسرا.

هكذا ستظهر الصحافة التي تحدثت وكتبت حول اعتقال الأم وابنها في سجون العقيد في وضع مضحك، مادام أن المعنية بالأمر تقول الصحافة الرسمية وصحافة المخابرات المغربية على لسانها أنها لم تكن معتقلة ولا هم يحزنون.

واضح أن الدبلوماسية المغربية شعرت بالإحراج عندما أرسل المحامي السويسري مبعوثا خاصا إلى الملك يطلب منه التدخل لإطلاق سراح الأم المعتقلة رفقة ابنها في ليبيا. بعدما اعتبر المجلس الأعلى للجالية أن الملف ليس من اختصاصه، وكأن المجلس الأعلى للجالية متخصص في شؤون جالية سكان كوكب الزهرة.

وواضح أيضا أن هناك صفقة سرية تم عقدها بين الرباط وطرابلس لإقبار هذا الملف. وليس مستبعدا أن نسمع اليوم أو غدا أن الخادم المغربي الذي اتهم ابن العقيد بإساءة معاملته وضربه قد تنازل لهذا الأخير وسحب شكايته. فالمدعي العام السويسري في جنيف استبعد إمكانية طي الملف لأغراض سياسية، وأكد أن النيابة العامة لم تتعرض لأي ضغط من وزارة الخارجية الفدرالية لأن هذه الأخيرة تحترم استقلالية القضاء. استقلالية القضاء، هذه الجملة التي لا يفهمها المسؤولون لا في الرباط ولا في طرابلس.

ولذلك طالبت السلطات الليبية سويسرا بتقديم اعتذار لها على معاملتها «القانونية» لحنيبعل القذافي. فالأعراف الليبية المعمول بها في الجماهيرية الديمقراطية تعطي المشغل حق ضرب مشغليه متى أحب، كما تعطيه حق طردهم وقتما أحب. وأبناء العقيد مشهورون بتحديهم لقوانين الدول الديمقراطية، ويصرون على نقل فوضاهم وتخلفهم إلى شوارع العواصم المتقدمة. وقبل مدة ألقي القبض على أحد أبناء القذافي يسير بسرعة جنونية في الاتجاه المعكوس في جادة الإليزي. وتم إطلاق سراحه بكفالة وكاد يتسبب في أزمة دبلوماسية بين باريس وطرابلس.

تريد الدبلوماسية المغربية «النشيطة» أن تظهر اليوم حنكتها وفعاليتها لأنها استطاعت أن تتدخل بسرية تامة لإعادة أم وأخ الخادم السابق لابن الرئيس الليبي. وتريد أن تقدم هذا الإنجاز الدبلوماسي عبر صحافتها الرسمية كما لو كان مشابها للجهود الدبلوماسية التي بذلتها فرنسا والدول الغربية لإعادة الرهينة «بيطانكور» إلى عائلتها من بين مخالب خاطفيها في الأدغال الكولومبية.

وإذا كانت الدبلوماسية المغربية متعودة على الاشتغال بسرية وفعالية، وتقيم وزنا لرعايا المملكة في الخارج، كما تردد صحافتها مثل ببغاوات، فلماذا لم تتحرك لإنقاذ مئات المهاجرين المغاربة الذين يتكدسون في سجون العقيد مثل الحيوانات. أليس هؤلاء المهاجرون الذين قادهم حظهم العاثر إلى واحة الديمقراطية الليبية العظمى مغاربة يحملون جواز السفر المغربي ويستحقون أن تتفاوض الدبلوماسية المغربية، سرا وبفعالية، من أجل إعادتهم إلى أرض الوطن. أم أن هؤلاء ليسوا مورطين في قضية بطلها ابن الرئيس المدلل، ولذلك فقضيتهم لا تعني الدبلوماسية المغربية في شيء.

ماذا صنعت الدبلوماسية المغربية «النشيطة» للمختطفين مجهولي المصير إلى اليوم، بوعلام والمحافظي. هل أعادتهما إلى أرض الوطن، هل أقفلت ملفهما ونسيتهما بهذه السرعة مع أنهما موظفان كانا يشتغلان لحسابها في العراق.

ماذا فعلت الدبلوماسية المغربية «النشيطة» عندما طاردت قوات الأمن الإسبانية المهاجرين المغاربة في شوارع مورسيا ومقاهيها قبل شهر وطرحتهم أرضا وضربتهم أمام الملأ فقط لكي تتفقد هوياتهم. ماذا صنعت غير بيان تافه عبرت فيه عن قلقها من هذه التصرفات.

على وزارة الخارجية أن تفهم أنها ليست مجبرة على التصرف بسرية عندما يتعلق الأمر بقضية أصبحت قضية رأي عام. خصوصا وأن ميزانية وزارة الخارجية تخرج من جيوب دافعي الضرائب. ولذلك فعدم إصدار أي بيان أو بلاغ أو توضيح في هذه القضية يعبر عن ازدراء واضح للرأي العام الوطني. وزارة الخارجية ليست جهازا سريا يشتغل في الظلام حتى يخاف من إصدار البيانات. اللهم إذا كلفت الخارجية صحافة «المخابرات المغربية» بالنيابة عنها في شرح تقاليدها العريقة في العمل بسرية وفعالية للرأي العام.

دعونا نكون متفائلين أكثر من اللازم ولنتصور أن الدبلوماسية المغربية تحركت في السر لتسوية ملف عائلة المغربي الذي يتابع قضائيا ابن الرئيس الليبي في سويسرا. فماذا تراها ستفعل هذه الدبلوماسية من أجل مساندة هذا الخادم المغربي قضائيا ضد ابن الرئيس الليبي، هل ستعين له السفارة المغربية بسويسرا فريقا من المحامين للترافع لصالحه، أم هل ستضغط عليه من أجل سحب شكواه وطي الملف.

على العموم فالدرس الوحيد الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الحكاية هو أن الفرق كبير بين الديمقراطية والتخلف. وعلى القضاء المغربي أن يتأمل جيدا حرص النيابة العامة السويسرية على استقلاليتها عن وزارة الخارجية، وحرصها على أن تأخذ هذه القضية مجراها الصحيح والعادل، حتى ولو كان المدعى عليه ابن رئيس دولة والمدعي مجرد خادم.

على العدالة المغربية أن تتأمل هذا الدرس جيدا وهي تغض الطرف عن متابعة الكولونيل التريكي الذي زور محضرا رسميا لكي يغطي على شخص داس مرتين حارسا بسيارته الجاكوار في فندق «أونفتريت بالاس» بالصخيرات، وكل ما استطاع أن يصنعه ضده صهره الجنرال حسني بنسليمان هو أنه أعفاه من مهمته وأرسله إلى بيته لكي يستريح.

المضحك في كل هذه الحكاية أن صحافتنا الرسمية وصحافة «المخابرات المغربية» أصبحوا يعطون الدروس في الديمقراطية والدبلوماسية لدولة مثل سويسرا. وكم أتمنى أن ترد سويسرا بنشر كشف بحسابات كل زعمائنا وجنرالاتنا ومسؤولينا الكبار وأرصدة زوجاتهم وأبنائهم في بنوكها السويسرية الأمينة. حتى نعرف كم هرب كل واحد منهم من ثروات هذا الوطن الذي يدعون خدمة مصالحه في السر والعلن.

العدد 595 الاحد 17 اغسطس 2008

المهم هو المشاركة

كل الذين تابعوا المباراة التي جمعت الملاكم المغربي محمد أمنيسي بنظيره الملاكم الصيني قبل أمس في أولمبياد بكين تمنوا أن يصفر الحكم لإنهاء المباراة قبل وقتها القانوني، فقد كان منظر الملاكم المغربي يقطع في القلب وهو يتلقى اللكمات من كل حدب وصوب من طرف الملاكم الصيني الذي انتصر عليه في النهاية بأربع عشرة نقطة مقابل صفر نقطة للمغربي.

هكذا ستدخل الملاكمة المغربية بهذه النتيجة كتاب غينيس للأرقام القياسية، بالمقلوب طبعا. فربما كان الملاكم المغربي أول ملاكم في العالم يعجز عن تسجيل نقطة واحدة ضد خصمه طيلة جولات المواجهة.

أعتقد أن الجنرال حسني بنسليمان ووزيرته في الشباب والرياضة نوال المتوكل يجب أن يعمما إعلانا في القرية الأولمبية يدعوان من خلاله الرياضيين المغاربة المشاركين في الأولمبياد بأن يودعوا طلبات عندما يعودون إلى المغرب عند حرزني رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من أجل تسلم تعويض مادي عن الضرر الذي أصابهم في بكين. فبعض الرياضيين المغاربة يعيشون سنوات رصاصهم الخاصة في الصين. وكل من شاهد لاعب الجيدو المغربي صفوان عطاف يصرح لميكروفون الرياضية مباشرة بعد خروجه منهزما والدم ينهمر من جرح غائر بجبهته، تعاطف معه وشعر بالحزن لأجله، خصوصا عندما قال وعيناه توشكان أن تفيضا من الدمع، أنه يعاني من تسع إصابات ومع ذلك شارك، وليس هناك ضمن البعثة الرياضية طبيب لكي يعالجه.

وليس لاعبو الجيدو المغاربة وحدهم من افتقدوا الطبيب إلى جانبهم، فحتى السباحة المغربية الواعدة سارة البكري أرسلوها إلى بكين بدون طبيب ولا مدلك ولا مدرب. وأنا شخصيا أعذر الملاكم المهدي واتين الذي أكل علقة ساخنة على يد ملاكم من منغوليا وفقد أعصابه بعدما خرج مهزوما بعشر نقط مقابل نقطة واحدة، ودفع مصور الرياضية الذي اعترض طريقه لكي يأخذ منه تصريحا. فماذا كان ينتظر الصحافي أن يقول له الملاكم النازل لتوه من الحلبة بعينيه المنفوختين، هل كان يريده أن يقول كما قال مدرب منتخب الجيدو بأن الحصيلة إيجابية، رغم سقوط أغلب لاعبيه منهزمين بالضربة القاضية.

فنحن المغاربة لا أحد يستطيع أن يتفوق علينا عندما يتعلق الأمر بتحويل الهزيمة النكراء إلى نصر ساحق. وقد تابع المشاهدون المغاربة بالمباشر كيف تدخل مدرب صفوان عطاف ونزع المايكروفون من يده وكذب كل ما قاله هذا الأخير عن ضعف الإمكانيات وانعدام الطبيب وختم بأغنية «العام زين». كما تابع الجميع بالصور كيف ينتظر الجنرال حسني بنسليمان ووزيرته في الشبيبة والرياضة الرياضيين المغاربة في المكان المخصص لتغيير الملابس لكي يواسونهم ويطبطبون على أكتافهم، وكأنهم يقولون لكل من ينزل من الحلبة «مفدوع» الكتف أو «راعف» الأنف أو «محلول» الجبهة، «كيف والو، تكبر وتنساها».

إن الصورة المخجلة التي ظهرت بها الرياضة المغربية في بكين أمام العالم تضع المسؤولين عن هذا القطاع أمام مسؤولياتهم. ومن حق الرياضيين المغاربة المشاركين في أولمبياد بكين أن يقاضوا هؤلاء المسؤولين لأنهم أرسلوهم إلى حلبات المواجهة بدون أطباء وبدون أن يكونوا مستعدين لمواجهة خصومهم. وكأني بهؤلاء المسؤولين «باغين الخدمة» في هؤلاء الرياضيين الشباب وهم يرسلونهم لكي يأكلوا ما يأكله الطبل يوم العيد ويعودوا إلى بلادهم معقدين ساخطين وناقمين على الرياضة وما يأتي منها بسبب كل تلك الهزائم الثقيلة التي تكبدوها. لحسن الحظ أن مباريات «السكرتح» لم تبدأ بعد، فهي آخر أمل تبقى لنا لكي نربح أحد المعادن التي يتبارى حولها العداءون.

وأنا أتابع مباريات الفروسية في الأولمبياد، استغربت كيف أن المغرب غير مشارك في هذا الصنف الرياضي. وتذكرت كل تلك السنوات الطويلة التي ظلوا يعذبوننا بالنقل الكامل لمنافسات أسبوع الفرس في التلفزيون. وأحيانا كان «أسبوع الفرس» يدوم أكثر من أسبوع، نتابع خلاله قسرا عشرات الفرسان وهم يتقافزون فوق الحواجز، حتى حفظنا قوانين هذه اللعبة وأسماء المشاركين فيها وأسماء الخيول وجنسياتها إلى درجة أن بعضها أصبح فردا من العائلة، كما حفظنا أصناف الجوائز التي يحصلون عليها. فهذا الفارس الكومندان وضار ممتطيا «طورنادو»، وهذا الفارس القبطان بنخرابة ممتطيا «الصامبا»، وهذا اليوتنان لوباريس ممتطيا «فولطير»، واليوتنان الطويل يمتطي «بالزاك». تصوروا هذه النهاية المخجلة لكاتب كبير في حجم بالزاك ارتبط بالرواية والنقد الأدبي والصحافة، فوجد اسمه في آخر المطاف معارا لفرس يركبه عسكري.

بعد كل هذه الأسابيع الطويلة المخصصة للفرس والمنقولة بحوافرها كاملة عبر التلفزيون الوحيد الذي كان مكتوبا علينا كقدر، لم يخرج للمغرب بطل واحد في الفروسية يستطيع أن يحمل علم البلاد في أولمبياد بكين.

هكذا يكونون قد عذبونا طيلة كل هذه السنوات بأسابيع فرسانهم بلا فائدة. مع كل ما تتطلبه هذه الرياضة من مصاريف باهظة للعناية بالخيول وبناء إسطبلاتها وتعويضات رياضييها.

واضح إذن أن تشجيع رياضة الفروسية في المغرب لم يكن القصد منه البحث عن بطولة في الملتقيات العالمية وجلب ميداليات للمغرب، وإنما إنشاء سوق مفتوحة لمربي الخيول الأصيلة، يستعرضون فيها «الدماء النقية» لحيواناتهم التي يساوي كل واحد منها ثمن عمارة للسكن الاقتصادي.

وبالإضافة إلى الفروسية هناك رياضة يخسر المغرب عليها من ميزانياته لتشجيعها الملايير كل سنة، وهي رياضة الكولف الراقية التي أحيا الله مخترعيها في العالم المتقدم حتى شاهدوا بعض المتطفلين عليها في المغرب يتشاجرون في مباريات جائزة كأس العرش الأخير ويتبادلون اللكمات المقرونة بأحط الشتائم. ومع كل ذلك لم تنجب لنا كل هذه الحفر والكيلومترات المديدة من العشب الباهظ الذي يسقى في بعض المناطق بالماء الشروب، ولو بطلا واحدا يمثل المغرب في الملتقيات الدولية لهذه الرياضة ويرفع العلم الوطني. ومن حسن حظ المغرب أن الغولف ليس رياضة أولمبية، وإلا لكان سجل غيابه كما غاب في مجموعة من الرياضات ككرة اليد وكرة السلة والكرة الطائرة الشاطئية ورياضة الكياك واقتصاره على المشاركة في سبع رياضات دون بقية الثمانية والثلاثين رياضة أخرى التي تتبارى فيها دول العالم حول الذهب والمعادن الأخرى الأقل لمعانا.

إن المشاركة الباهتة للمنتخب المغربي في أولمبياد بكين تنطوي على دروس عميقة لمن أراد أن يستخلص الدروس ويستفيد منها ويستعد للدورة المقبلة من الآن. وأول درس نستخلصه من غياب المغرب عن حلبة المنافسة في الألعاب الأولمبية هو غيابه عن الألعاب الجماعية. ولعل هذا مرده إلى سيادة الروح الفردية في الرياضة كما في باقي المجالات الأخرى بالمغرب. فالنزعة الفردية وتضخم الذات والأنانية كلها خصائص أصبحت تميز الشخصية المغربية، وبالتالي تعيق في المجال الرياضي نشوء وتطور رياضات جماعية تتطلب التنسيق والتعاون والتكامل. وهذه للأسف ليست خصائص مفقودة في الرياضة وحدها وإنما حتى في السياسة والاقتصاد وباقي المجالات الحيوية للمجتمع والتي تتطلب عملا جماعيا.

ولعل أهم درس يجب أن يستوعبه القائمون على الرياضة المغربية هو أن يكفوا عن انتظار المعجزات. فالميداليات لا تعلق بالحظ وإنما بالعمل الجاد والشاق لسنوات. وكم سيكون مفيدا لهؤلاء المسؤولين أن يعيدوا مشاهدة برنامج وثائقي حول استعدادات الصين للأولمبياد القادم بثته إحدى القنوات الفرنسية مؤخرا، في معهد خاص بتدريب أطفال تتراوح أعمارهم بين السابعة والثالثة عشرة على رياضة الجمباز. وعندما سأل الصحافي المدرب لماذا يختارون أطفالا بهذه السن المبكرة أجابه بأن هؤلاء ليسوا أطفالا وإنما أبطالا سيشاركون خلال أولمبياد 2012 القادم بلندن وسيجلبون ميداليات ذهبية للصين.

يجب أن نتوقف في المغرب عن الارتجال في كل شيء. فإما أننا مستعدون للذهاب إلى الأولمبياد وإما أن نعتذر عن المشاركة ونعفي المغرب من كل تلك المواقف المخجلة التي يعيشها اليوم في بكين. يجب أن نتخلى عن تلك النظرية السخيفة التي يرددها الجميع كلما تكبدنا هزيمة نكراء والتي تقول «المهم هو المشاركة». فللمشاركة شروط أهمها الاستعداد للخصم وتوفير ما يلزم للرياضيين المشاركين. أما أن يرسلوا الشباب إلى أحواض السباحة وحلبات العراك بلا أطباء ولا مدربين، ثم يقفون لتقديم المواساة والعزاء في الميداليات الضائعة فهذه ليست مشاركة وإنما مؤامرة.

أحد الصحافيين الذين اختارتهم اللجنة الأولمبية لكي يغطوا أولمبياد بكين كتب بأن حسني بنسليمان رئيس اللجنة الأولمبية «بات مطالبا بإعادة النظر في بعض مساعديه المتقدمين في السن، سواء منهم الموظفين أو أعضاء اللجنة بعدما أصبح وجودهم يعرقل عملها محليا ودوليا».
من يقرأ هذا الكلام يتخيل الجنرال حسني بنسليمان لازال في ريعان الشباب، وأن المشكلة ليست فيه وإنما في بعض مساعديه الذين تقدموا في السن ويجب تغييرهم. ومثل هذا الكلام هو ما يشجع حسني بنسليمان وأمثاله على التمسك بتلابيب الرياضة المغربية وإنزالها إلى الأسفل. لأنهم يزينون له عمله ويغالطون الرأي العام بإلصاق جريمة إغراق الرياضة المغربية بمساعدي الجنرال الذين شاخوا، وإعفاء الشاب حسني من دم هذه الرياضة النازف.

العدد 594 الجمعه 15 اغسطس 2008

الباسبور لخضر

في الوقت الذي أرسل فيه الملك رئيس مخابراته ياسين المنصوري إلى نواكشوط لكي يتدخل لإطلاق سراح الرئيس الموريتاني الذي أطاح به الجنرالات، وهذا ما تم بالفعل، في خلال هذا الوقت أرسل المحامي السويسري «فرانسوا مومبريز» مبعوثا خاصا إلى الملك يلتمس منه التدخل لإطلاق سراح مغربيين محتجزين بعاصمة العقيد القذافي طرابلس.

نحن هنا أمام مفارقة دبلوماسية مثيرة للتأمل. المغرب يتدخل لإطلاق رهائن موريتانيين في موريتانيا بينما يعجز عن التدخل لإطلاق سراح رهائن مغاربة في ليبيا. والكارثة هي أن الرهينتين لم يقترفا أي ذنب آخر في حق العقيد القذافي أو جمهوريته الديمقراطية العظيمة سوى كون إحدى الرهائن والدة المغربي سائق حنيبعل القذافي ابن العقيد، والآخر أخوه. وكل جريمة المواطن المغربي سائق جناب ابن الرئيس هو أنه سجل شكاية ضده عند شرطة سويسرا بعد خمس سنوات قضاها مستعبدا عند ابن الرئيس تعرض فيها للضرب والإهانة والتنكيل. فاعتقلت الشرطة السويسرية ابن الرئيس الليبي وزوجته للتحقيق معهما.

وكان أول رد ليبي على تعامل سويسرا مع ابن الرئيس الليبي طبقا لما تنص عليه قوانين البلاد، هو اعتقال مواطنين سويسريين في طرابلس بتهمة الهجرة السرية. ولحسن الحظ أن ليبيا لم توجه لهذين المواطنين السويسريين تهمة محاولة الهجرة السرية إلى أوربا، التي بالمناسبة يحملان جواز سفر إحدى أكثر دولها غنى وشهرة، سويسرا، حيث يضع العقيد وعائلته أموالهم في بنوكها.

وأول شيء قامت به السلطات السويسرية بعدما تطورت الأمور وهدد العقيد بقطع بتروله عن سويسرا وسحب أمواله من بنوكها، هو إيداعها للسائق المغربي الذي تسبب في اعتقال حنيبعل مكانا آمنا، حيث يخضع للعناية الطبية والنفسية جراء المعاملة القاسية التي تعرض لها على يد ابن العقيد.

وبينما قطع وزير الخارجية السويسري عطلته الصيفية والتحق بمكتبه على عجل للبحث عن حل لهذه الأزمة الدبلوماسية التي نشبت بين ليبيا وسويسرا، وأرسل رجله الثالث في الوزارة إلى طرابلس للتفاوض مع الليبيين حول مخرج للأزمة، فإن وزارة الخارجية المغربية ظلت محافظة على برودة أعصابها في ثلاجتها الدبلوماسية. أما سفارة المغرب بسويسرا وطرابلس والممثلة الدبلوماسية للمغرب في جنيف فكلهم فضلوا دس رؤوسهم في الرمال مثل النعام، وتركوا للمحامي السويسري مهمة إرسال مبعوث إلى الملك لكي يطلب منه التدخل للإفراج عن مواطنين من «رعاياه الأوفياء» المحتجزين في جمهورية العقيد الديمقراطية العظمى.

المحامي السويسري المسكين تعجب من حجم الازدراء الذي تعاملت به الحكومة المغربية مع رسائله التي طلب من خلالها تدخل وزراء مغاربة لصالح رهائن مغاربة في بلد جمعنا به ذات زمن قطار اسمه المغرب العربي. فقد انتهت مراسلاته في سلة المهملات، لأن وزراءنا في عطلة، وبما أنهم في عطلة فلا داعي للسرعة. ويبدو أن ليبيا هي أحسن من يطبق اليوم اتفاقية التعاون بين بلدان المغرب العربي، خصوصا بالنسبة لأبناء العقيد، فحنيبعل ليبي ولديه سائق مغربي وخادم تونسي، ولو بحثنا في قصوره جيدا لربما عثرنا على جزائري في مكان ما. والطريقة المثلى لتفعيل اتفاقية التعاون بين ليبيا ومواطني بلدان المغرب العربي، وخصوصا المغرب، هي احتجاز مواطنيها كرهائن عندما يقدم أحد أفراد عائلتهم شكاية بأحد أبناء الرئيس الليبي.

عندما نرى حماس الرباط الزائد، عبر صحافتها الناطقة بلسانها، للانقلابيين الموريتانيين والثناء على وطنيتهم الزائدة التي بفضلها تم إصلاح ما أفسده الرئيس المخلوع الذي أصبحت تسيره زوجته من خلال ترؤسها لإحدى الجمعيات، ثم إرسال رئيس المخابرات المغربية لمطالبة الانقلابيين بإطلاق الرئيس المخلوع ورجاله، ونقارن بين هذا الحماس الزائد للدفاع عن الآخرين والفتور المزمن في الدفاع عن مصالح المغاربة الذين تواجههم مشاكل خارج المغرب، نكتشف أن المغاربة أضيع في الخارج من الأيتام في مأدبة اللئام.
إنه لمن المخجل أن تتكفل السلطات السويسرية بالعناية الطبية والنفسية لمواطن مغربي تعرض للضرب والإهانة على أرضها بينما تستكثر عليه السفارة المغربية بسويسرا وممثلة المغرب في جنيف مكالمة هاتفية واحدة تسأل فيها عن أحواله، وما إذا كان بحاجة إلى محامي أو طبيب. كما أنه من المخجل أن يصل مسؤول في الخارجية السويسرية إلى طرابلس ليبحث مع الليبيين قضية عائلة السائق المغربي المعتقلة كرهينة، بينما يغمض السفير المغربي في طرابلس عينيه عن هذه الإساءة الدبلوماسية التي لا تمت للأعراف الدولية ولا لتقاليدنا الإسلامية بصلة.

كل الدول التي تحترم مواطنيها تتدخل لصالحهم عندما يتعرضون لمشاكل في بلدان أجنبية، إلا المغرب فإنه يتصرف كما لو أن الأمر لا يعنيه مطلقا. وربما أفهم الآن لماذا أخبرتني المواطنة حنان.س المهاجرة بهولندا بحزن أنه لم يعد يشرفها أن تكون مغربية وعربية، وعندما سمعت حكايتها وجدت له العذر.

فقد قررت هذه المهندسة المغربية المهاجرة هي وزوجها المهندس المغربي أن يقضيا عطلة في شرم الشيخ بجمهورية مصر العربية، وحجزا في فندق من صنف خمس نجوم. لكنهما بمجرد وضعهما لأرجلهما في المطار تم منعهما من دخول مصر بحجة أنهما لا يتوفران على التأشيرة. رغم أنهما يتوفران على جواز سفر هولندي بالإضافة إلى المغربي. لكن جواب رجال الجمارك المصريين كان صارما، فالأمر يتعلق بما سموه «أمن الدولة». وكأن عطلة مهندسين مغربيين في مصر من شأنها تهديد هذا الأمن.

وهكذا قررت مصالح الجمارك المصرية إعادة الزوجين من حيث أتيا، أي إلى هولندا. بعد 12 ساعة من الانتظار فوق كراسي المطار وجدوا مقعدا فارغا في طائرة عائدة إلى أمستردام للمهندسة، بينما كان على زوجها أن ينتظر حظه.

وبمجرد ما وصلت المهندسة المغربية إلى هولندا اتصلت بالسفارة المصرية بأمستردام فأخبروها بأنهم لا يستطيعون القيام بأي شيء من أجلهما ماداما مغربيين. ثم عادوا وحاولوا حجز تذكرة إياب في طائرة قادمة من القاهرة إلى أمستردام، فاكتشفوا بندا في القانون المصري يمنع اقتناء تذكرة ذهاب دون إياب إلى أوربا بالنسبة للمسافرين العرب. مع أن هذا المغربي العربي يعيش في هولندا ويحمل جنسيتها ولا يفكر في الهجرة إليها للاستقرار بشكل غير شرعي. وحتى عندما اشترت زوجته تذكرة سفر أخيرا، فقد اكتشفوا أن المغربي لا يمكنه السفر من مطار شرم الشيخ إلى مطار القاهرة لأخذ طائرته نحو أمستردام، لأنه عمليا لازال داخل التراب المصري. وهنا «زغب» الله المهندسة المغربية واتصلت بالسفارة المغربية بالقاهرة لكي تطلب منهم مساعدة زوجها في الوصول إلى القاهرة ليأخذ طائرته. فأمطروها في السفارة المغربية بالأسئلة المتهمة من قبيل «علاش شدوكم، ياك مادرتو شي حاجة، ياك مالقاو عندكم شي حاجة»، لكي يطلب منها أخونا المغربي في السفارة جزاه الله خيرا أن تعيد الاتصال بعد ساعتين. وعندما عادت المغربية للاتصال بالسفارة وقعت على موظف آخر وأعاد عليها نفس الأسئلة المستفزة والمتهمة، وفي الأخير طلب منها أن تجدد الاتصال في الغد. أي أن المغربي المعتقل في المطار يجب عليه أن ينتظر ساعات أخرى بالإضافة إلى 36 ساعة التي قضاها رهينة الجمارك المصرية.

لحسن الحظ أن وكالة الأسفار الهولندية التي اشتروا منها تذاكر السفر استطاعت أن تقنع مطار القاهرة بالسماح للمغربي بالسفر نحوه، ومنه إلى أمستردام.

وتختم المهندسة حنان حكايتها هكذا «زوجي استطاع أخيرا أن يركب طائرته عائدا إلى البيت. وبعد كل الذي حدث لم أعد فخورة لا بمغربيتي ولا بعروبتي. عندما يمنعني بلد عربي من دخوله في الوقت الذي يسمح لكل الجنسيات الأخرى بالدخول، حتى أن الهولنديين اندهشوا عندما سمعوا هذا الأمر، عندما تعجز سفارة بلادي عن مساعدتي بينما يتطوع الهولنديون للقيام بذلك، عندما أرى أنني أستطيع السفر إلى أي بلد أوربي أشاء وعندما أفكر في تشجيع السياحة العربية في بلد إسلامي يتم طردي نحو أوربا، عندما يحدث لي كل ذلك أشعر بالخجل من جوز سفري الأخضر. ولذلك أعتقد أنني إذا فكرت في المستقبل في قضاء عطلتي أنا وزوجي فسنختار بلدا أوربيا، النصارى أولى بفلوسي، حلال عليهم».

وبعد كل هذا لازال البعض يستغرب لماذا يسارع المغاربة إلى طلب جنسيات دول أوربية، فهم مقتنعون بحكم التجربة أن جنسيتهم المغربية لا تحميهم عند الضرورة، بل بالعكس، يمكن أحيانا أن تكون سببا مباشرا لمشاكلهم.

العدد 593 الخميس 14 اغسطس 2008

سياسة التجهيل

أعتقد أنه كانت هناك في المغرب منذ القديم رغبة في تجهيل المواطنين وتغليطهم. والحسن الثاني نفسه قد اعترف بأن التعليم كان سبب مشاكله، خصوصا بسبب تلك النخبة التي أرادت أن تنازعه السلطة، فعاقب المتشددين منهم، وأغرى الوصوليين منهم بمواقع المسؤولية إلى جانبه، ثم تفرغ للتعليم فدق آخر المسامير في نعشه، وترك المغرب في مصاف الدول المتخلفة التي يصل فيها عدد الأميين إلى أكثر من خمسين بالمائة.

ولطالما كتبت الصحافة وانتقدت وجود مستشارين أميين أو محدودي التعليم في المجالس المنتخبة. لكن ذلك لم يغير شيئا من واقع الأمر. الذي وقع هو أن هذه الأمية والجهل ينتقلان أحيانا من مقرات المجالس المنتخبة إلى الشارع العام. مثال بسيط. بالأمس تناولت طعام الغذاء في أحد المطاعم الموجودة بحي بورغون بالدار البيضاء. وعلى أحد الجدران قرأت اسم الشارع المكتوب بالفرنسية والعربية. اسم الشارع هو «لاغيينيون»، الذي يحيل على جزيرة «لارينيون». المصيبة أن ترجمة هذا الاسم إلى العربية تحولت إلى «شارع الاجتماع». ويبدو أن الأمر اختلط على مترجم مجلس المدينة إلى الحد الذي ترجم اسما إلى فعل. غير بعيد عن حي بورغون، وفي حي المعاريف بالضبط، نعثر على زنقة تحمل اسم «أحمد أمين»، وكتعريف للرجل وضعوا تحته «شاعر». مع أن أحمد أمين لم ينظم قصيدة واحدة في حياته، وكان كاتبا معروفا بكتاباته المدافعة عن المرأة.

تجهيل المواطنين الذي بدأ مع الحسن الثاني، استمر في «العهد الجديد»، لكن ذلك اليوم بطرق أكثر «حداثة» من السابق. قبل يومين وأنا أستمع إلى برنامج إذاعي تبثه إحدى الإذاعات الخاصة من الدار البيضاء في الثامنة والنصف مساء، تأكدت من أن بعض هذه الإذاعات الخاصة أصبحت أدوات فعالة لنشر ثقافة الجهل والتسطيح والتغليط. كان موضوع النقاش حول الوشم عند المغربيات، ومن خلال تعليقات مسير البرنامج وتدخلات المستمعين يتضح أننا وصلنا إلى مستوى متدني من الرداءة الإذاعية. فهذه مستمعة تقول بأن أختها لا تجرؤ على وشم جسدها لأنها إن فعلت ذلك فإن أخاها سيكسر أضلعها، وثانية تقول بأن الواشمات لسن سوى نساء «خارجات الطريق»، وآخر يفرغ على المستمعين كبته القديم ويقول لهم بأنه يحب كل شيء توجد فيه رائحة الفتيات، وأن المكان المفضل لديه في الوشم على جسد المرأة هو «البوط». وفي هذه الأثناء يتدخل «المنشط» لكي يقول للمستمعين بأنه توصل برسائل قصيرة على هاتف البرنامج لو قرأها عليهم فإن التسونامي سيصلهم إلى الإذاعة.

وقد تركت بعض هذه الإذاعات الخاصة التي كنا نعول عليها للرقي بالذوق ورفع مستوى النقاش السياسي والثقافي في البلاد، كل المواضيع والإشكاليات التي تشغل بال الرأي العام الوطني جانبا وانشغلت بموضوع تافه كالوشم، وخصصت له حيزا زمنيا «محترما» وكأن المواضيع انتهت في المغرب ولم يبق سوى معضلة الوشم على جسد المرأة.

التلفزيون الرسمي بقناتيه ليس أحسن حالا من بعض إذاعاتنا الخاصة. وإذا كان هناك من أداة لتجهيل المواطنين وتغليطهم فهي بالضبط نشرات أخبار هذا التلفزيون وبرامجه السياسية. وقد رأينا كيف حاول عباس الفاسي الوزير الأول تغليط الملايين من المغاربة عندما ادعى أن سيدي إفني لم تشهد أية أحداث، وبثت نشرة أخبار القناة الثانية مباشرة بعد هذا التصريح صورا من الأرشيف لميناء المدينة الهادئ، قبل أن تتجاوزها الأحداث وتعود إلى تصوير روبورتاج عن الأحداث التي هزت المدينة وتستجوب بعض أعضاء حركة «أطاك» الذين شاركوا في الأحداث.

وآخر درس في تغليط الرأي العام تكفلت بإعطائه وكالة المغرب العربي للأنباء، عندما تعاملت مع تصريحات والتر والسوم المبعوث الأممي في الصحراء بمنطق لائحة الطعام، أي أنها أخذت منه ما رأته صالحا لقصاصاتها وتركت البقية جانبا. هكذا نزلت قصاصة الوكالة تقول بأن والتر فالسوم يؤكد على استحالة قيام كيان مستقل في الصحراء. فيما تصريح فالسوم الكامل يقول بأن الشرعية الدولية مع البوليساريو لكن المغرب لديه شرعية الواقع.

هكذا تتحالف وكالة الأنباء الرسمية والإعلام الرسمي من أجل هدف واحد، وهو تغليط الرأي العام وإعطاؤه صورة ناقصة، وأحيانا مشوهة، عما يحدث حوله. وكأن هذا الرأي العام لا يعيش ثورة معلوماتية خارقة للعادة، ويتلقى الأخبار فور وقوعها من مصادر متعددة وبصورة واضحة ومتكاملة تمنحه فرصة تكوين رأيه وموقفه الخاص بعيدا عن أي تأثير جانبي.

ولكي نفهم أسباب هذه الحملة التجهيلية التي يتعرض لها المغاربة، لا بد من العودة سنوات إلى الوراء، خصوصا في الفترة التي تعرض فيها التعليم أيام الحسن الثاني إلى أسوأ مؤامرة بتواطؤ مع حزب الاستقلال. ويحكي مولاي أحمد العراقي الوزير الأول على عهد الحسن الثاني في آخر حوار له أن التعليم كان من القطاعات الفاشلة بسبب سياسة التعريب التي ضغط حزب الاستقلال من أجل تطبيقها. هذا في الوقت الذي كان فيه المدافعون عن تطبيق سياسة التعريب في التعليم العمومي يدرسون أبناءهم في مدارس البعثة الفرنسية. والنتيجة هي ما نرى اليوم، فهؤلاء الأطفال الذين درسوا في البعثة الفرنسية عندما كان آباؤهم من قادة حزب الاستقلال يدافعون عن تعريب تعليم أبناء الشعب، هم من يمثلون حزب الاستقلال في الحكومة،. ومنهم ياسمينة بادو وكريم غلاب ونزار بركة وغيرهم.

وعمليا فإن حزب الاستقلال استعمل التعليم كأداة لعرقلة وصول الطبقات الشعبية إلى مصاف النخبة الفاسية والرباطية التي تمتلك الأدوات العلمية لممارسة الحكم، أو على الأقل التواجد في مراكز القرار.

وطيلة عقود ظلت المدرسة العمومية تنتج أشباه الأميين، وتحولت الجامعة إلى بورصة لبيع وشراء البحوث الجامعية وأصبح لتسجيل الأطروحات ثمن ولمناقشتها ثمن. حتى أصبحت الجامعات المغربية خارج ترتيب سنة 2008 لأفضل 500 جامعة عالمية. وخلال هذا الوقت ظلت العائلات نفسها التي تحتكر مقاعد مدارس البعثة الفرنسية هي نفسها منذ الاستقلال وإلى اليوم. وفي لائحة الناجحين في الباكالوريا منذ افتتاح البعثة إلى الآن، والتي ينشرها الموقع الرسمي لمدارس البعثة، نعثر على أسماء أبناء كل وزراء التعليم الذين تعاقبوا على الحكومات المغربية.

وهكذا فالتجهيل على مستوى التعليم في المغرب لم يكن مجرد خطأ سياسي عابر، وإنما كان سياسة مقصودة ومخططا لها بعناية بالغة، هدفه التحكم في إنتاج النخبة. تلك التي سمح الحسن الثاني بتكوينها مع بداية الاستقلال فكادت أن تخرج له في عوده. وهكذا تحالف حزب الاستقلال مع النظام من أجل إنتاج نخبة على المقاس موالية للنظام، سوف تسند إليها في المستقبل مسؤولية حمل المشعل الذي سيتركه آباؤهم. وهذا ما وقع بالضبط.

وإلى اليوم لم تتوقف هذه الآلة الجهنمية التي تبخس أبناء الشعب حقهم الطبيعي في التكوين العلمي العالي. والدليل على ذلك هو لجوء أكبر المؤسسات التعليمية العليا في المغرب إلى برمجة امتحانات الشفوي للولوج إليها في اليوم نفسه. حتى يقلصوا من فرص المرشحين الذين قبلت طلبات ترشيحهم في الولوج إليها، رغم معدلاتهم الجيدة.

في الدول التي تقدر العلم والتكوين العالي يبحثون عن الطاقات والكفاءات بالفتيلة والقنديل، ويمكنونهم من المنح والسكن لكي يدرسوا في أحسن الظروف. أما عندما فيضيقون عليهم الخناق ويبرمجون جميعهم امتحانات الولوج في يوم واحد، حتى يقلصوا من حظوظهم في ولوج أحد هذه المعاهد العليا.

ومع ذلك تستغرب جريدة الوزير الأول في عدد الأمس كيف أن هجرة الأدمغة مستمرة وأن المغاربة يتربعون على صدارة ترتيب المهاجرين المقبولين بكندا.

أنا ما أستغرب له صراحة هو كيف استطاع أبناء الشعب من المغاربة تحدي كل حملات التجهيل التي قادتها الدولة ضدهم بسياساتها العرجاء، واستطاعوا أن يكونوا أنفسهم بوسائلهم الخاصة في مدن ليست فيها مكتبات ولا مختبرات للبحث العلمي ولا بنيات تحتية. تصوروا لو أن المغاربة الذين نراهم اليوم يسيرون أعقد مراكز البحث في المستشفيات العالمية، ويحاضرون في أعرق الجامعات، ويخترعون أدق المعدات الطبية والصناعية، تصوروا لو أن هؤلاء المغاربة تلقوا تكوينا علميا حقيقيا ووجدوا من يوفر لهم في بلدهم أسباب البحث العلمي، كيف كان سيكون المغرب.

أكيد أننا كنا سنكون من بين الدول المتقدمة. فهذا الشعب الذي يقاوم التجهيل بوسائله الخاصة شعب موهوب من دون شك، ولديه مناعة ضد التجهيل والتغليط. انظروا فقط إلى عدد الصحون اللاقطة فوق أسطح البيوت لكي تفهموا أننا شعب يبحث لكي يعرف ما وراء بيته ويبتكر لكي يرى أبعد من أنفه.

في عهد الحسن الثاني استعملنا الكسكاس لكي نقبض على «تيفي 5» وفي عهد محمد السادس نستعمل البارابول ونقرصن الشفرات لكي نلتقط العالم بأسره. ولأنهم يخاصموننا في الداخل فإننا سنظل أبد الدهر نبحث عن من يفهمنا في الخارج.

العدد 592 الاربعاء 13 اغسطس 2008

السفر الأخير

قدر رموز القضية الفلسطينية أن يجسدوا المنفى في حياتهم كما في مماتهم. لقد كان على ياسر عرفات أن يغادر أرضه الفلسطينية المحتلة التي عاش طيلة حياته مدافعا عنها نحو باريس لكي يموت. كانوا يعرفون جميعهم أنه لن يرجع، وأن تلويحة يده المرتعشة، بسبب السم الذي جرعه إياه العدو بيد الصديق، ستكون آخر تلويحة من يد الرئيس. فدخل المستشفى الباريسي لكي يسلم روحه فوق أحد أسرته، بعيدا عن رفاق السلاح والثورة.

محمود درويش الذي لا يمكن ذكر اسمه إلا مقرونا بفلسطين والبندقية والثورة والقهوة والزيتون، كان عليه أن يحضن والدته الطيبة وإخوته دون أن يستطيع النظر في عيونهم ويخبرهم بأن عليه أن يسافر إلى أمريكا، لكي يفتح قلبه المتعب هناك. أمريكا التي وصفها بالطاعون في إحدى قصائده ووقف ياسر عرفات يصفق بحرارة في تلك الأمسية الشعرية في منفاه التونسي عندما ردد درويش مقطعه الحماسي «أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا»، رافعا أصبعه المتهم نحو القارة التي سيكون عليه بعد اشتداد مرضه أن يحمل إليها قلبه على متن الطائرة لكي تفتحه عن آخره. ويبدو أنها فتحته أكثر من اللازم، ما يكفي لكي تتسلل روحه خارجه في نزهة وتضيع طريق العودة إليه.

كل الذين ولدوا في السبعينات والثمانينات وأصيبوا بلوثة الشعر والكتابة مدينون لمحمود درويش بشيء. ولعلني لست الوحيد الذي يستطيع أن يعترف بأنه لولا قصيدة «سجل أنا عربي» لما انفتحت عيناي على منجم اللغة المليء بالجواهر والمعادن النفسية والذي يشتغل داخله طينة خاصة من البشر اسمهم الشعراء.

ذات صباح جاءنا إلى القسم أستاذ شاب وأنيق اسمه الهاشمي لكي يدرسنا مادة اللغة العربية في إطار الخدمة المدنية التي كانت إجبارية آنذاك. وكان يعتقد أن أحسن طريقة لتحبيب اللغة إلينا ليست هي حفظ قواعدها الجافة وإعراب جملها وتصريف أفعالها إلى الأزمنة المضارعة والماضية، وإنما الشعر. وليس أي شعر، الشعر الحر. كنا ندرس في قسم الثالث إعدادي وكانت أعمارنا تتراوح بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة. ذات صباح جاءنا بقصيدة قال إنها لشاعر فلسطيني اسمه محمود درويش وعنوانها «سجل أنا عربي»، وأحضر مسجلة صغيرة وأسمعنا القصيدة بصوت صاحبها. وبعد برهة رحنا نردد وراءه القصيدة وقد حفظناها عن ظهر قلب. بعد ذلك عرفنا الأستاذ على الشاعر وحياته وبقية قصائده. وهكذا اكتشفت شعرا آخر غير شعر طرفة بن العبد والمتنبي وأحمد شوقي ونزار قباني الذي كنا ننتحل قصائد غزله لكي نرسلها إلى الفتيات.

ومنذ ذلك اليوم صرت ألتهم كل ما كتبه محمود درويش من أشعار. أحببت عكا وحيفا وريتا حتى دون أن أعرف مواقعها على الخريطة. أحببت أمه التي لم أفهم قصيدته التي يحن فيها إلى خبزها وقهوتها ولمستها إلا عندما صرت مشردا مثله في بلدان الآخرين. أدمنت اقتناء مجلة «الكرمل» التي كان يصدرها وينشر فيها افتتاحياته الرائعة. فدرويش لم يكن أحسن من يكتب الشعر، وإنما أحسن من يكتب النثر أيضا. لأنه كان يعرف أن النثر هو امتحان الشاعر الكبير. فكانت نصوصه النثرية عبارة عن قصائد طويلة.

وعندما وصلت إلى الجامعة، عثرت في المكتبة على أعماله الكاملة. وطيلة أربع سنوات أدمنت على قراءة وإعادة قراءة قصائده. وعندما اشتغلت في التلفزيون غطيت أحد لقاءاته في مقر الولاية بالرباط، وجلست قريبا منه، لكنني لم أكلمه ولم أسع لمصافحته. وجلست أنظر إليه وأراقب حركاته. أصابعه التي يخلل بها بين حين وآخر خصلة شعره المسدلة فوق جبينه، نظاراته الطبية التي تخفي عينين مجهدتين بفعل الأرق، صديق الشعراء القديم، قميصه الأبيض المكوي بعناية، وساعة يده ذات الحزام الجلدي الفاخر، والتي خمنت أنها مصابة بالدوار من شدة تغيير مواقيتها بسبب أسفار درويش الكثيرة حول العالم.

قيمة محمود درويش الأدبية والإنسانية ليست فقط في ما تركه من رصيد شعري هائل، بل في كونه أعاد للشعر قوته وعنفوانه في زمن عربي موشوم بالهزيمة والخذلان. فصارت قصائد درويش أخطر من طلقات البنادق، وصوت الكينيسيت الإسرائيلي على اقتلاع قصائد درويش من المقررات المدرسية في إسرائيل كما يقتلع الجيش الإسرائيلي أشجار الزيتون في القرى الفلسطينية. وقبله حوصر درويش في بيته بفلسطين المحتلة، لأن قصائده كانت أشد وقعا على العدو من رصاص المقاومة.

عندما يفقد الإنسان أرضه وموطنه تؤويه اللغة، فاللغة ملاذ المشردين والضائعين. ومحمود درويش سكن اللغة العربية، لكنه لم يسكن طوابقها العلوية حيث يوجد شعراء وكتاب آخرون يطلون على القارئ من نوافذ غرفهم العالية. بل سكن قريبا من الطابق الأرضي، حيث يسهل دخول الضيوف عليه وجلوسهم إلى مائدة شعره الباذخة، حيث الاستعارات والصور الشعرية والمفارقات الساخرة كلها فواكه طازجة طوع اليد معروضة باشتهاء للعابرين.

كان درويش يستحق جائزة نوبل للآداب، لكنهم لم يمنحوه إياها يوما. لأنه كان يجسد عذاب الضمير العالمي تجاه قضية عادلة تآمر عليها الأصدقاء قبل الأعداء. كان يحمل خنجر الغدر في ظهره ويتنقل به عبر العواصم العالمية لكي يرى العالم المتحضر الجريمة النكراء التي شارك فيها بصمته وتواطئه.

موت درويش يذكرنا بمدى ضرورة الشعر اليوم في عالمنا العربي الذي قتله الإطناب والخطابة والاجترار والتكرار. فكم نحن محتاجون لروح الشاعر الثائرة التي تقاوم باللغة عبث الحكام وساديتهم. تلك الروح القلقة التي سكنت شعراء كبار وأخافت الأرواح التافهة للديكتاتوريين والقتلة والسفاحين. فالشعر لا يسكن الأرواح المزيفة، بل النقية والشفافة. وعندما حاول كرادزيتش جزار البوسنة أن يتخفى في شخص طبيب أعشاب وكاتب أشعار للأطفال، فضحه الشعر وألقي عليه القبض. فالشعر لم يكن أبدا قناعا يصلح لإخفاء الجريمة، بقدر ما كان دائما أصبع اتهام يشير إلى المجرم.

وكل من يعتقد أن الشعر هو القصائد والأبيات والدواوين فهو مخطئ. فالشعر أسلوب حياة قبل أن يكون أسلوب كتابة. والشاعر ليس إنسانا عاديا مثل الآخرين، إنه روح قلقة وثائرة تبحث عن الحرية في كل شيء. والناس يعتقدون أنهم أحرار لمجرد أن أرجلهم لا توجد في القيد، وكم هم مخطئون، لأن السجين الحقيقي ليس هو المعتقل بين أربعة جدران، بل الموثوق القدمين واليدين بسلاسل الخوف. والشاعر الحقيقي يتحدى الخوف في كل لحظة. ولذلك قرر درويش أن يذهب أخيرا لمواجهة هذا الموت الذي أجله طويلا، أعزل إلا من قلبه المتعب. ذهب بعد أن شكر أصدقاءه في رام الله على الحفل التكريمي الذي أقاموه له، وسخر كعادة الشعراء الكبار من هذا التكريم وشبهه بأحسن حفل تأبين لم يحضره، ببساطة لأن الموتى لا يحضرون تأبينهم. ودع أهله وأصدقاءه الوداع الأخير، وحزم حقيبة سفره وقدم نفسه للجراحين لكي يشقوا صدره ويفتحوا قلبه لثالث مرة، لآخر مرة.

أتخيل تلك الموظفة الأمريكية التي تأتي إلى سريرك مباشرة بعد دخولك ذلك المستشفى الكبير، لكي تطلب منك التوقيع على كومة من الأوراق، منها واحدة تتعلق بموافقتك على التبرع بأعضائك في حالة موتك. فقد مررت لبضع ساعات بالمستشفى نفسه الذي مات فيه محمود درويش عندما كنت في زيارة لمدينة هيوستن سنة 2006 وألمت بي حالة تعب بسبب توالي الرحلات الجوية في تلك الزيارة التي نظمتها وزارة الخارجية الأمريكية لحوالي عشرة صحافيين من العالم العربي.

أتخيل درويش وهو يبتسم في وجه الموظفة ويقول لها أنه يريد أن يعود إلى قريته بأعضائه كاملة. لقد تبرع للعالم بسبعة وستين عاما من عمره قضاها في تأليف وطن من الكلمات والاستعارات، مقابل أن يورث هذا العالم أرضه وموطنه لقوم آخرين جاؤوا من الشتات، لذلك سيكون من الجشع أن يطمع هذا العالم المتحضر في أعضاء محمود درويش المتعبة ليورثها أشخاصا آخرين بعده.

في هذا المستشفى الأمريكي الذي يعتبر أحسن مستشفى لأمراض القلب في العالم بأسره، أجرى جراح فلسطيني عملية ناجحة على القلب المفتوح للرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن. تصوروا هذه المفارقة، جراح فلسطيني ينقذ قلبا قاسيا لرئيس روسي يشرب الفودكا كما يشرب غيره الماء، وجراح أمريكي يفشل في إنقاذ قلب شاعر فلسطيني مرهف وحساس.

السياسيون دائما قلوبهم أقسى وأقدر على تحمل قذارة العالم وحماقاته. أما الشعراء الحقيقيون فيتعبون في منتصف الطريق ويرحلون. عزاؤهم الوحيد أن قصائدهم تبقى كوصايا للقادمين بعدهم إلى معترك الحياة.

لن نعاتب صاحب «لماذا تركت الحصان وحيدا» على رحيله المباغت، ولن نسأله لماذا ترك الشعر وحيدا في هذا الليل العربي الحالك وذهب بمفرده ليموت بعيدا عن الأرض التي أحبها وحارب من أجلها بجيش متراص ومتناغم من الكلمات. فقلبه يرتاح الآن من الخفقان، وروحه الحيرانة والقلقة ستجد السكينة والسلام إلى جانب الذين حملوا فلسطين في قلوبهم ورحلوا قبل أن يروها محررة وعلمها يرفرف فوق القدس الشريف.

العدد 591 الثلاثاء 12 اغسطس 2008

من ابن بطوطة إلى ابن سليمان

كل المغاربة في الداخل والخارج الذين تابعوا حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في بكين يوم الجمعة الماضية، تسمروا أمام شاشة التلفزيون بانتظار مرور الوفد المغربي. مر الوفد الجزائري، وانتقلت الكاميرا إلى المنصة الشرفية حيث يجلس حوالي ثمانين رئيس دولة وأميرا جاؤوا لكي يشرفوا وفودهم الرسمية ويشجعوهم ويرفعوا من معنوياتهم، ونقلت الرئيس بوتفليقة الذي تحامل على مرضه وطار إلى بكين يتحدث مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ثم مر الوفد القطري وتحولت الكاميرا نحو المنصة لكي تنقل ولي العهد الذي جاء لحضور استعراض فريقه الوطني. ومرت جمهوريات سمعنا اسمها لأول مرة لا أحد يعرف موقعها في الخريطة، وشاهدنا رؤساءها يلوحون لرياضييهم بالمناديل والرايات الوطنية ويلتقطون لهم الصور التذكارية. أما الدول المتقدمة فكانت أغلبها ممثلة برؤسائها أو بأولياء العهد. فإسبانيا رافقها ولي العهد وزوجته ليتيسيا، وبوتين أشعل النار في أطراف جورجيا وجاء ليتفرج على استعراض فريقه الوطني وعلى البطل الصيني يشعل النار في الشعلة الأولمبية. وبوش وزوجته وقفا وصفقا طويلا لأكبر الفرق المشاركة في الأولمبياد عددا وعدة.

وانتظرنا أن يمر فريقنا الوطني لكي نرى الوفد الذي ذهب لمساندته وهو يلوح من المنصة للمشاركين المغاربة مشجعا. فمر الوفد المغربي أخيرا، واكتشفنا أن بطلتنا في التكواندو، بنعبد الرسول، التي كان منتظرا أن تحمل العلم الوطني تراجعت إلى الخلف، بينما عوضها مدرب لا أحد سمع باسمه، بعد أن وصل الجنرال إلى بكين وقرر نزع العلم الوطني من يد المرأة ووضعه في يد الرجل. فالجنرال يتصرف في الرياضة كما لو كان في الثكنة، مطبقا بالحرف القانون العسكري الذي يمنع إعطاء التحية العسكرية للمرأة حتى ولو كانت تحمل فوق أكتافها أعلى الرتب العسكرية. كما يمنع عليها قيادة الحاميات العسكرية. وانتظرنا أن تصعد الكاميرا إلى المنصة لكي نرى وجوه الشخصيات المغربية التي جاءت لكي تمثل المغرب في هذا الحدث الرياضي الذي يتابعه العالم بأسره، فلم نر أحدا. ومر المغرب مثل أي جمهورية موز أو دولة صغيرة مرمية في الأرخبيل، أو مملكة في أطراف الكرة الأرضية لا يعرفها أحد.

شعرت بالخجل من نفسي كمغربي، ونظرت إلى صديقي الذي كان يتابع معي الافتتاح وقلت له : - شفتي على شوهة... فأجابني ساخرا : - الناس مسيفطين الرؤساء والأمراء باش يشرفو بلاداتهم وحنا مسيفطين جنرال، ومن الفوق روشيرشي... فعدت وقلت أنه حتى ولو كان الجنرال العبوس جالسا بنظاراته الشمسية في الكرسي المخصص للوفد المغربي في المنصة، فإن المصورين والصحافيين المكلفين بنقل الحفل مباشرة إلى العالم لن يتعرفوا عليه.

فالوحيدان اللذان يعرفان الجنرال خارج المغرب هما القاضي الفرنسي «باتريك راماييل» والقاضي الإسباني «بالتزار غارسون». ثم عدت وقلت أنه من حسن حظ المغرب أن المصور لم يلتقط الجنرال جالسا في المنصة تلك الجلسة الجامدة، مخفيا نظراته الباردة وراء نظاراته السوداء.

فالجنرال العبوس لم يتعود الابتسام أمام الكاميرا ولا الوقوف احتراما للرياضيين والتلويح بقفازات يديه لتحيتهم. فالقواعد العسكرية الصارمة التي تربى عليها علمته ألا يقف احتراما «للسيفيل»، إلا إذا كانوا من العائلة الملكية، فإنه آنذاك يجثو بكل قامته المديدة على ركبته ويقبل الأيادي الكريمة. وتصوروا أن الكاميرا انتقلت عند مرور الوفد المغربي إلى المنصة وتعرفت على وجه الجنرال الذي جاء لكي يمثل المغرب، ونقلت إلى العالم وجها عبوسا قمطريرا لا تعرف الابتسامة طريقها إلى قسماته العسكرية. هل هذا هو المغرب الذي نريد «بيعه» لمئات الملايين التي تتابع افتتاح هذه الألعاب الأولمبية. مغرب يمثله جنرال صدرت في حقه مذكرة بحث وتوقيف دولية.

إن الرؤساء والأمراء الذين حضروا برفقة وفودهم ونزعوا عنهم تجهم السلطة وبروتوكولها الثقيل وانصهروا في الجو الرياضي العام الذي ساد ملعب «عش الطائر»، لم يأتوا لأن وقتهم رخيص أو لأنهم أغبياء أو لأنهم لا يحملون هم شعوبهم وتركوها وحيدة لكي يذهبوا للتفرج على افتتاح الأولمبياد. لقد جاء كل هؤلاء الرؤساء والأمراء لكي يمنحوا بلدانهم بضعة ثوان من الاعتراف العالمي بوجودهم على سطح الكرة الأرضية. لقد ضيع المغرب على نفسه لحظات ثمينة لا تقدر بثمن، حينما كان العالم كله مشدوها نحو شاشة التلفزيون أمام مرور رياضييه وغياب ممثليه الرسميين. وكأن المغرب الذي يحتفل هذه الأيام بمرور 1200 سنة على وجوده، المغرب الذي كان أول من اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، والذي وصل ابن بطوطة من طنجة إلى الصين قبل مئات السنين وألهمت رحلته الكتاب والمغامرين، المغرب الذي منه انطلق الفتح الإسلامي نحو أوربا، المغرب الذي ترك بصمات لا تمحى في ذاكرة ألعاب القوى، هذا المغرب يخرج في افتتاح الألعاب الأولمبية من الباب الصغير، مثل تلك الدول حديثة العهد التي خرجت من رحم أوربا الشرقية، حتى دون أن يكون له وفد رسمي يليق بمكانته وتاريخه بين دول المعمور.

واضح جدا أن المغرب فقد جزءا كبيرا من مكانته الدولية. فهمت ذلك أكثر عندما أردنا أن نرسل مبعوثين صحافيين إلى موريتانيا لتغطية الانقلاب الذي وقع فيها. فاكتشفنا أن موريتانيا بدورها أصبحت تفرض التأشيرة على المغاربة. وعندما سألت أحد الأصدقاء حول سبب هذا الإجراء قال لي بأن ذلك راجع إلى الاجتياح الكبير للمغربيات لنواكشوط ومدنها المجاورة.

فهذه للأسف الشديد هي الصورة التي أصبحت للمغرب في كثير من الدول. بلد يصدر بناته ونساءه ورجاله، وحتى أطفاله القاصرين. ولهذا فالرياضة تنفع كثيرا لترميم الصورة الخارجية للدول. وهذه المسألة فهمتها الصين جيدا. ولعله من باب النفاق أن لا نعترف بأن كثيرا منا غيروا نظرتهم للصين والصينيين بعدما شاهدوا حفل الافتتاح الرائع الذي قدموه للعالم. لقد أظهروا للعالم بأسره عبقريتهم وموهبتهم ودقتهم الشديدة وصرامتهم وحرصهم على تشريف بلدهم بعرض تاريخهم وحضارتهم في لوحات فنية مبتكرة، جعلت ألد خصومهم يقفون منبهرين من علو كعبهم. ولعل أول شيء يجب على المغرب أن يبدأ به لإنقاذ ماء وجهه هو انتزاع الرياضة من يد العسكريين.

إنه لمن المخجل أن تستمر جزمة العسكر جاثمة فوق صدر الرياضة المغربية إلى اليوم، بعد كل الهزائم التي منيت بها هذه الرياضة تحت إشرافهم. السياسيون الذين يفهمون قيمة الرياضة وأهميتها للتوازن النفسي للمواطنين، يفعلون ما بوسعهم لضمان بقاء الروح الوطنية مشتعلة، لأنهم يعرفون أنها هي الوقود الذي سيلجؤون إليه لضخ الشعور الوطني لمواطنيهم. في إسبانيا وصل النمو الاقتصادي إلى الصفر، واشتدت الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لازال الشعور الوطني قويا بفضل انتصارات لاعب التينس «ندال» وراكب الدراجة «ساستري»، وبفضل المنتخب الإسباني الذي جلب للإسبان كأس أوربا، وبفضل أبطال كثيرين في الجمباز والسباحة والفورمولا واحد وغيرها من الرياضات. ولعل أحد أسباب انحدار الشعور الوطني للمغاربة هو هذه النكسات التي تعرفها منتخباتهم الرياضية.

ومن شدة افتقاد المغاربة لرؤية راية بلادهم ترفرف فوق منصات الملاعب الدولية، أصبحوا يعلقون هذه الراية فوق أعناق كل من جاء إلى المغرب وصعد منصة وأخذ ميكروفونا وبدأ يغني. فلم يعودوا يفرقون بين الشاب بلال وبين ماجدة الرومي، المهم أن يروا راية بلادهم مرفوعة فوق أكتاف أحدهم.

الرياضة ليست سوى الوجه الآخر للسياسة. وإلا لما جاء كل هؤلاء الرؤساء التسعين إلى بكين لحضور افتتاح الألعاب الأولمبية. ولعل أكبر دليل على أنه لا يمكن فصل الرياضة عن السياسة هو موقف السباح الإيراني الذي رفض العوم إلى جانب السباح الإسرائيلي وانسحب من المنافسة. ولو أن الموقف الأكثر عقلانية كان هو أن يسبح الإيراني إلى جانب الإسرائيلي ويتفوق عليه في النهاية. لا أن يترك له المسبح ويغادر منهزما. نتمنى أن يتمكن أبطالنا من رفع العلم المغربي في بكين، كما رفعه مغاربة قبلهم في بلدان أخرى. كما نتمنى أن يحالف الحظ المغاربة الآخرين الذين يخوضون هذه المنافسات تحت رايات وجنسيات أجنبية. فهم مغاربة على كل حال، حتى وإن كان معهم هذا المغرب قاسيا، إلى الحد الذي قايضوه بغيره.

العدد 590 الاثنين 11 اغسطس 2008

مسيلمة الكذاب

عندما ادَّعى «مسيلمة الكذاب» النبوة قال له حواريوه : «إن محمدًا يقرأ قرآنًا يأتيه من السماء فاقرأ علينا شيئًا مما يأتيك من السماء»، فاعتدل في جلسته ورفع بصره إلى الأعلى وقال لهم: «يا ضفدع يا ضفدعين .. نُقِّي ما تَنُقِّين .. نصفُكِ في الماء ونصفك في الطين»، فأشاح أتباعه بوجوههم عنه بسبب ما سمعوه وعرفوا أن مسيلمة لا يتلقى الوحي مثل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما يردده ليس سوى ترهات. فخرج له من بين الجمع أعرابي وقال له «والله إني لأعلم أنك كذَّاب، وأعلم أن محمدًا صادقٌ، ولكن كذابُ ربيعة أحبُ إليَّ من صادق مُضر».

تذكرت هذه الحكاية وأنا أقرأ تصريحات لعمدة فاس يفتخر فيها بكونه أميا يحكم مدينة اشتهرت بالعلم والعلماء. بل أكثر من ذلك، فقد بلغ الأمر بشباط أن قارن بين أمية محمد صلى الله عليه وسلم وبين أميته، وساوى بينهما. فالرجل أظهر في الفترة الأخيرة تبحرا مدهشا في أمور الدين، هو الأمي الذي يفتخر بأميته، بعد أن أظهر «تفوقا» ليس بعده تفوق في إظهار براعته في أمور الدنيا الفانية.

والغريب في تصريحات عمدة مدينة العلم والعلماء، التي لا بد أن فاطمة الفهرية التي أسست مسجد القرويين تتقلب في قبرها بسبب إطلاق اسم جامعتها على جريدة سخيفة اسمها «غربال القرويين» يصدرها رجل يدعي «الأمية» على منهاج النبوة، هو أن هذه التصريحات المستفزة للمشاعر الدينية للمغاربة لم تحرك هيئة علماء المسلمين ولا فقهاء وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا حتى مؤسسة إمارة المؤمنين. وها نحن نرى كيف أن العمدة المفتخر بأميته النبوية تجرأ على الرسول الكريم، ووضع نفسه في مصاف الأنبياء والصديقين.

ولعل مشكلة صاحب «الغربال» المثقوب أنه لا يدرك الفرق بين أمية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمية العامة من الناس. فالله تعالى اختار نبيا أميا ليوحي إليه بالرسالة حتى لا يقول أحد بأن القرآن من صنعه. فكانت بذلك أميته إحدى أكبر المعجزات التي جاء بها. أما أمية شباط فليس فيها أي إعجاز، بل هي فضيحة كبرى. على الرغم من أن شباط يريد أن يحول هذه الأمية إلى إعجاز عندما يقول مفتخرا بأنه أول عمدة أمي يرأس مدينة للعلماء. ويمضي مفتخرا بماضيه «المجيد» عندما يذكر كيف بدأ حياته مرقعا «للبياسات» في «جانطات» الدراجات الهوائية والنارية في دكان صغير بأحد أزقة فاس. قبل أن يتحول من ترقيع «البياسات» في العجلات إلى ترقيع ميزانيات المجلس البلدي ثم مجلس المدينة من بعده.

كثيرا ما سمعنا احتجاجات بعض الكتاب والمعلقين في الصحف والمجلات، وفي البرلمان والحكومة، بسبب استعمال البعض للدين في السياسة. وكثيرا ما سمعنا أن الإسلام هو دين المغاربة كلهم وليس لأحد الحق في احتكاره أو الحديث باسمه، خصوصا إذا كان هذا الاستعمال غايته تبرير مواقف أو أهداف سياسية. لكننا لم نسمع أحدا يطلب من عمدة فاس أن يتوقف عن استعمال الآيات القرآنية والأحاديث والسيرة النبوية لتبرير تجاوزاته السياسية وفلتات لسانه اللغوية، وأحيانا خروقاته الفاضحة.

وما قاله شباط في الندوة التي نظمها زميله البحراوي عمدة الرباط قبل شهرين حول ضرورة اللجوء أحيانا إلى خرق القانون لضمان السير الطبيعي للعمل، خير دليل على ذلك. خصوصا عندما برر هذا الأمر بالآية الكريمة التي تقول «ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه».

وهذا تأصيل وتشريع للشطط في استعمال السلطة ونهب المال العام، على مرأى ومسمع من علماء المغرب ومفتيه. فصاحبنا لفرط أميته يجهل أسباب نزول هذه الآية، ويعتقد أن اللجوء إلى الحرام عند الاضطرار مباح في كل الأحوال. والحال أن هذا الأمر مباح عندما يكون صاحبه خارجا في سبيل الله، كما في الحديث المروي عن مجاهد رضي الله عنه «غير باغ ولا عاد» أي غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم. قال مجاهد ومن يخرج لقطع الطريق أو في معصية الله تعالى فاضطر إلى الميتة لم تحل له، إنما تحل لمن خرج في سبيل الله تعالى.

فإن اضطر إليها فليأكل. وعن سعيد بن جبير قال في شرح «فمن اضطر غير باغ ولا عاد» : إذا خرج في سبيل الله تعالى فاضطر إلى الميتة أكل، وإن خرج إلى قطع الطريق فلا رخصة له .

وبما أن الخارج في مرضاة الله ليس كالخارج في معصيته، فإن الرخصة تباح للأول فيما تمنع عن الثاني. وما على شباط سوى أن يراجع حساباته، تلك التي راجعها قبله قضاة المجلس الأعلى للحسابات ووجدوا فيها ما لا يرضي الله ولا عبده لكي يعرف مع أي فريق هو «خارج». هل في ما يرضي الله أم في ما يغضبه.

ويا ليت سعادة العمدة توقف عند علم تفسير القرآن، فالطامة الكبرى هي أنه تعداه إلى اختلاق الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروج في الناس أن الرسول الكريم ذكر فاس في أحد أحاديثه وأثنى على أهلها.

ولو لا أن العمدة اتقى الله لكان أضاف أن الرسول بشر في حديثه برجل أمي سيأتي من بعده في آخر الزمان يقال له شباط، سيظهر في قبيلة بني يزناسن وسينزل إلى فاس ليصلح للفاسيين عجلات دراجاتهم قبل أن يمر إلى إصلاح أمور دينهم ودنياهم.

وبما أننا نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي يتشبه شباط بأميته، كان يتلقى الوحي في غار حيراء، فإننا متشوقون كثيرا لكي يخبرنا شباط أين يتلقى وحيه، هل في غيران «عين الشقف» بضواحي فاس أم في واد «بوخرارب» الذي يشطر المدينة إلى نصفين. لأنه من المستحيل أن يتوفر شباط على كل هذه العلوم الدينية والدنيوية دون أن «ينزل» عليه الوحي من مكان ما. ربما يأتيه من الرباط حسب توقيت فاس ونواحيها.

كثيرا ما يحلو للأمريكيين الافتخار بأن بلدهم هو الوحيد في العالم الذي يمنح بالتساوي لكل القادمين إليه فرصتهم الذهبية في الحياة. وقد سموا ذلك بالحلم الأمريكي. هكذا تحول ممثل أدوار رعاة البقر في السينما، رونالد ريغان، إلى رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وتحول بطل كمال الأجسام شوارزنيغير من رجل يعرض عضلاته في المسابقات إلى حاكم لولاية كاليفورنيا. واليوم نرى كيف قد يصبح حسين أوباما، المرشح الأسود الذي درس في صباه فوق مقاعد مدرسة قرآنية، رئيسا لأمريكا.

لكن عندما نرى كيف أن رجلا يعترف بأميته، رجل ليس لديه في سيرته الذاتية أكثر من وظيفة ترقيع «بياسات» العجلات، يصبح حاكما على مدينة اشتهرت عبر التاريخ بعلمائها وأعلامها وفقهائها وفلاسفتها وشعرائها ومثقفيها، نقتنع بأننا في المغرب لدينا أيضا «الحلم المغربي».

ويا ليت «عبقرية» الرجل اقتصرت على السياسة والدين، وإنما الكارثة أنها امتدت إلى الصحافة. فالرجل أحببنا ذلك أم كرهنا أصبح زميلنا في المهنة. ومن حقه أن يطلب بطاقة الصحافة من وزارة الاتصال بحكم ترؤسه لجريدة «غربال القرويين» التي وضع لها الآية الكريمة «وأما بنعمة ربك فحدث» كشعار. وعلى كل حال لن يشعر شباط بالغربة وهو يرى نفسه الأمي الوحيد الذي يترأس جريدة، فحتما سيجد له أشباها ينعمون في شقاوتهم في هذا المنصب. ولسنا نجد في هذا المقام أبلغ مما قاله الشاعر عندما أنشد متحسرا على حال العقلاء والعلماء عندما يستأسد عليهم الجهلاء «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم».

وقانا الله وإياكم من الجهل والجهلاء. آمين.

العدد 589 السبت 9 اغسطس 2008

الفلاح وأعوانه

سيعذرني الراحل بوكماخ لأنني أستعير عنوان هذا العمود من نص كتبه وضمنه أحد كتب سلسلة اقرأ التي درسنا فيها سنوات السبعينات. وقد كنت خمنت في عنوان آخر هو «زوزو يصطاد السمك»، لكنني عدت وقلت أنني لن أتحدث عن الصيد البحري في هذا المقال وإنما فقط عن الفلاحة.

في كتابه المرجعي «الفلاح المغربي والعرش» يقول المفكر السياسي «ريمي لوفو» بأن الفلاح المغربي هو أكبر حامي للملكية. عكس كل البلدان الأخرى التي غالبا ما يكون الفلاحون فيها هم متزعمو الثورات ضد القياصرة والملوك، كما حدث خلال الثورة البلشفية والثورة الفرنسية.

وخلال استقباله لوزيره السابق في الفلاحة، مزيان بلفقيه، قال له الحسن الثاني بأن الأسرة العلوية استطاعت أن تحكم المغرب كل هذه القرون بفضل ثلاثة أشياء، الفلاحة والفقه والحرب.

وسواء خلال عهد المغربة أو خلال عهد الخوصصة، فإن الدولة كانت حريصة على إبقاء أراضيها الفلاحية في يد الأعيان والمقربين من المخزن والموالين للقصر والسياسيين الدائرين في فلكه. ولذلك عندما غادر عز الدين العراقي منصبه كوزير تعليم بعد أن خربه، عفوا، عربه، ذهب إلى عين عودة ليتسلم أرضا شاسعة أهداها له الملك ليمارس فيها الفلاحة في أوقات الفراغ.

عندما نراجع لائحة أسماء المغاربة الفائزين بصفقة كراء أراضي الصوديا والسوجيطا، نعثر على الأمير إلى جانب المقاول والمقاول والأمير إلى جانب السياسي، والمقاول والأمير والسياسي إلى جانب الملياردير. فالأمير مولاي إسماعيل حصل على 413 هكتارا، وعلي بلحاج رئيس رابطة الحريات حصل على 253 هكتارا، ومجموعة «أونا» حصلت على 808 هكتارات، والقباج عمدة أكادير الاتحادي حصل على 399 هكتارا، وعلي قيوح البرلماني الاستقلالي حصل على 1171 هكتارا، وإدريس الراضي رئيس الفريق البرلماني للاتحاد الدستوري حصل على 198 هكتارا. بالإضافة إلى زنيبر صاحب أكبر شركة لعصر الخمور، والذي حصل على هكتارات شاسعة، ربما يزرعها بالعنب كما تعود في ضيعات مكناس.

كل واحد من هؤلاء «طارت» له في «جطه» هكتارات شاسعة سيحرثها ويزرعها ويربي فيها قطعان الحيوانات النادرة بثمن رمزي لفترة تمتد إلى ثلاثين سنة.

ولعل السبب في هذا الإقبال الكبير من طرف هؤلاء المليارديرات المغاربة على أراضي الدولة هو كون الفلاحة معفاة من الضرائب. على الأقل إلى حدود 2010. ولهذا يسيل لعاب المستثمرين الكبار عند رؤية الأثمان الرمزية التي تكتري بها الدولة أراضيها الفلاحية.

هناك اليوم نقاش اقتصادي حول رفع الإعفاء الضريبي عن القطاع الفلاحي برمته، وجعل سنة 2010، سنة دخول اتفاقيات التبادل الحر حيز التنفيذ، آخر أجل لهذه الهدية الضريبية التي قدمها الحسن الثاني للفلاح المغربي سنوات الجفاف.

لكن من يستفيد حقا من هذا الإعفاء الضريبي، الفلاحون الصغار الذين يحرثون الشعير والقمح الطري وبعض الفدادين من الذرة والبصل والفول، من أجل الاكتفاء الذاتي غالبا، أم الفلاحون الكبار الذين يزرعون هكتارات شاسعة من الخضر والفواكه والحوامض، والتي يصدرونها إلى الأسواق العالمية بالعملة الصعبة، دون أن يكونوا مطالبين بدفع ضرائب على الأرباح.

وغالبا عندما نتحدث عن الفلاحة في المغرب يذهب خيالنا مباشرة إلى جرار في حقل أو بيادر التبن أو صناديق الخضر المركونة في الأسواق. وننسى أن هناك أنواعا من الزراعات والمنتجات الفلاحية التي تدر على أصحابها الملايير دون أن ينتبه إلى وجودها سوى القليلين.
زراعة اليوكاليبتوس مثلا، هي واحدة من الزراعات التي توجد رخصة استغلالها في يد «أحدهم»، والتي لا تخضع صادراتها لأية ضريبة.

وغير خاف عليكم أن «اليوكاليبتوس» أو «الكاليتوس» كما يسميه المغاربة، تدخل أوراقه ضمن صناعات دوائية، خصوصا كل ما له علاقة بالمحاليل المقاومة لأمراض الزكام والرشح. ولا بد أن بعضكم يذكر كيف أن أمه طبخت له في صغره أوراق «الكاليتوس» في الماء وأضافت إليه القليل من السكر لكي يشربه ويقاوم به السعال.

ولعل واحدة من أكثر القطاعات الفلاحية المدرة للدخل هي المنتجات الفلاحية الفطرية. وبالإضافة إلى الفطريات التي تنمو في الغابات والتي تصدر إلى الخارج، نظرا للطلب المتزايد عليها، نعثر في غابات الأطلس المتوسط على مقاول واحد من فاس يحتكر «جني» مادة فطرية يطلق عليها بالفرنسية اسم LICHEN ، وهي عبارة عن سائل لونه يوجد بين الأخضر والبني يستخلص من جذوع أشجار الأرز التي يشتريها من الحطابين الذين لديهم رخصة قطع أشجار الأرز، ويبيعه لشركات أجنبية في الخارج متخصصة في الصناعات الدوائية بحوالي عشرة آلاف درهم للكيلو الواحد. وإلى جانبه نعثر على مقاولين آخرين يحتكران غابات أزرو وإفران وخنيفرة لإنتاج هذه المادة. طبعا دون أن يكون هؤلاء «الفلاحون» مطالبين بدفع درهم واحد كضريبة لخزينة الجمارك.

وفي خنيفرة نعثر على مقاول آخر يحتكر تجارة الخروب، الذي يعتبر المغرب أول مصدر له في العالم، ليس سوى حسن أمحزون نائب المنطقة البرلماني عن الحركة الشعبية، ويحدد أثمان البيع بالنسبة للفلاحين الصغار. وغير خاف عليكم أن الخروب يدخل ضمن صناعات غذائية كثيرة كالشوكولاته وعلف البهائم وبعض مستحضرات التجميل.

دون أن نتحدث عن الأعشاب الطبية والعطرية، والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى منجم للذهب يستغله بعض «المتخصصين» في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، عبر خلق مكاتب دراسات لهذا الغرض بالضبط. ومن يذهب إلى الخميسات سيكتشف حقول الخزامى، أما من يذهب إلى الراشيدية فيكتشف حقول «أزير»، أما من يفضل الذهاب إلى قلعة مكونة فسيكتشف أن «مكونة» أصبحت علامة تجارية مثلها مثل «أركان» في الجنوب. كما أصبحت لبعض الفلاحين الكبار الذين يزرعون الورد عقود طلبات مع شركات عطور عالمية مثل «شانيل» و«إيف سان لوران».

والفلاحة في المغرب ليست هي الأعشاب والحبوب والفواكه والفطريات فقط، بل هي الطحالب البحرية أيضا. وفي مدينة الجديدة والقنيطرة يتم استخراج الأطنان من الطحالب البحرية على ظهر مئات الغطاسين والغطاسات الذين يقضون يومهم في التنفس تحت المياه العميقة من أجل بيع طحالبهم بدرهمين وثمانية سنتيمات للكيلو لفلاحين كبار يعيدون بيع هذه الطحالب بأضعاف أضعاف ثمنها للمختبرات الطبية.

ولعل مختبر «فايزر» الأمريكي لم تأته فكرة فتح مصنع لمعالجة الطحالب البحرية بالجديدة من فراغ، فوحدة التسويق والإنتاج في المختبر تعرف أنها بافتتاحها لمصنع للطحالب في عين المكان ستخفض تكلفة إنتاج الأدوية.

وربما لا يعير أغلبنا «كراريص» الهندية المنتشرة في الطرقات هذه الأيام أية أهمية، اللهم إذا ما راودته فكرة «تقشير» هندية أو هنديتين وابتلاعهما في الطريق إلى البيت أو العمل. فأغلبنا لا يعرف أن الهندية التي يستهين بها يوجد هناك في المغرب فلاحون كبار يتاجرون في زيت نبات الصبار الذي يصل ثمنه إلى 1200 أورو للتر، ويبيعونه لشركات التجميل العالمية في الخارج.

وما ينطبق على زيت الهندية ينطبق على الحلبة والزعفران والحلزون وغيرها من المنتجات الفلاحية المخصصة للتصدير نحو الأسواق العالمية.

وفي مقابل هذه الفلاحات المدرة للدخل، والمشغلة أيضا لليد العاملة، هناك فلاحات تحتضر ببطء منذ سنوات. فلاحات معيشية في الغالب يقاوم أصحابها القرض الفلاحي والجفاف والرغبة الجارفة في بيع الأرض والهجرة نحو المدن للتشرد على أرصفتها في الغالب.

لذلك فالحل الأمثل لإنقاذ الفلاحة المغربية ليس هو إلغاء الإعفاء الضريبي سنة 2010، وإنما تنظيم هذا القانون الضريبي وجعله أكثر عدلا.

يعني دعم الفلاحين الصغار وتقنين أرباح الفلاحين الكبار، دون خنقهم طبعا، لأن خنقهم سيهدد البنيات الاجتماعية المرتبطة بهذه الفلاحات، وكم هي كثيرة.

ولكي يستفيد الفلاح الصغير من عائدات منتجاته، يجب على وزارة الداخلية أن تلغي العمل بنظام الامتيازات في منح رخص استغلال أسواق الجملة. وفي «مارشي كريو» في الدار البيضاء مثلا، هناك طبقة من أصحاب هذه الرخص التي تنعم بها عليهم وزارة الداخلية يستفيقون في الخامسة صباحا ويغادرون السوق في العاشرة صباحا بعد أن يكونوا قد ربحوا ما يربحه الفلاحون الصغار في عام كامل. فهم يشترون من الفلاح البطاطا بأقل من درهم للكيلو ويعيدون بيعها بخمسة دراهم للمقسط والذي يعيد بيعها بستة دراهم للمستهلك. وكلما توسعت دائرة الوسطاء ارتفع الثمن. وهذا سبب مباشر من أسباب ارتفاع أسعار الخضر والفواكه، ووزارة الداخلية مسؤولة عن ذلك بسبب حرصها على الاستمرار في حماية اقتصاد الريع المبني على الرخص.

عندما وصف شكيب بنموسى تنسيقيات مناهضة الغلاء بالتنظيمات الخارجة عن القانون، لم يجد من يقول له بأن الخارجين عن القانون الحقيقيين هم أولئك المضاربون والوسطاء الذين يشهرون رخصهم في وجه الفلاحين، ويسرقون عرق جبينهم ويبخسونهم أشياءهم أمام أبواب الأسواق.

إن من يرعى أصحاب هذه الامتيازات لا يفعل غير تعهد الأزمة بالرعاية اللازمة حتى تكبر وتستفحل. أما دعم الفلاحة والطبقة الوسطى فيبدأ حتما من إلغاء هذه الرخص الامتيازية وإخضاع الفلاحين الكبار لواجب المساهمة في خزينة الدولة. يعني بالعربية تاعرابت «كول ووكل».

العدد 588 الجمعه 8 اغسطس 2008

حشيش المخزن

لم نكد نصدق خبر توقيف رجل درك في تمارة قبل أسبوع يتزعم عصابة لسرقة بيوت عباد الله ويتولى مهمة إرشاد لصوص عصابته إلى أماكن السرقة، حتى سمعنا قبل أمس خبر إعفاء رئيس الشرطة القضائية بسلا من مهامه بسبب علاقته المشبوهة بمروجي المخدرات، واختفاء بعض المحجوزات التي تضبطها الشرطة القضائية عند بعض تجار المخدرات.

والواقع أن خيط الود بين بعض المسؤولين الأمنيين بسلا وعصابات تجار المخدرات ما لبث يتقوى خلال السنين الأخيرة، إلى الحد الذي أصبح فيه كل التجار الصغار والكبار للمخدرات يعرفون الفرق بين «حشيش السيفيل» و«حشيش المخزن».

والفرق بين الحشيشين واضح وصارم، فالأول هو حشيش البزناسة الذي يشترونه من باعة الجملة ويبيعونه بالتقسيط لصالحهم. فيما «حشيش المخزن» فجميع البزناسة يعرفون أن مصدره هو ذلك الحشيش المحجوز الذي يصادره الأمن من تجاره. وهكذا عندما تتم مصادرة كيلو من الحشة تبدأ المفاوضات مع المهرب لكي يشتري شهور السجن بالغرام. وعوض أن يلبسوه في المحضر تهمة حيازة كيلو من المخدرات فإنهم يضعون، حسب قدرة المهرب على اقتناء الشهور، ستة أشهر أو أربعة. ويسجلون له في المحضر الغرامات المتبقية التي لم يستطع دفع ثمنها، والتي سيقضي عنها عقوبة سجنية.

ماذا يحدث بعد ذلك للكمية المتبقية من الحشيش المحجوز والذي لم يسجل في المحضر، إنه ببساطة يتحول إلى «حشيش المخزن» ويعاد إنزاله إلى أسواق سلا لكي يباع بالتقسيط. والمدهش في الأمر أن «حشيش المخزن» الذي تسهر عناصر من الأمن على إيصاله إلى السوق، يعتمد أساسا على البزناسة الصغار لبيعه. والذين يرعون هذه التجارة الموازية يعرفون أسعار الحشيش في السوق المغربي، فعندما يصل ثمن الكيلو الواحد إلى عشرة آلاف درهم، فإنهم ينتظرون من البزناسة أن يسددوا لهم عشرة آلاف درهم بالتمام والكمال. ولذلك فالبزناسة لا يتساهلون مع زبائنهم كلما تعلق الأمر بترويج «حشيش المخزن»، بل يحرصون على أن لا يضيع منه «التفرتيت» لأنهم يعرفون أن أي غرام ضائع سيدفعون ثمنه من جيوبهم.

ولهذا يطبقون مع «حشيش المخزن» القاعدة التجارية الشهيرة التي تقول «ممنوع الطلق والرزق على الله»، حتى ولو تعلق الأمر بزبائن من رجال الأمن أنفسهم.

اليوم يبدو أن أمر هذه «العصابة» المنظمة قد انكشف، وحتما إذا عمقت الإدارة العامة تحرياتها ستعثر على امتدادات هذه الشبكة الأمنية التي عوض أن تكافح المخدرات تكافح شهيتها المفتوحة للمال بالمخدرات.

وهذه ليست أول مرة يصبح فيها عناصر من الدرك أو الجيش أو الأمن أعضاء أو زعماء لعصابات متخصصة في السرقة والسطو وتجارة المخدرات. فقد كتبنا حول العصابة التي تم اعتقالها في طنجة والتي كانت مشكلة من حوالي خمسة عشر رجل أمن، وكتبنا حول العصابة التي كانت تسرق السيارات والمشكلة من رجال أمن بنواحي الرباط. وقبل أسبوع تم اعتقال عسكري بالجنوب لتورطه في تجارة المخدرات.

والمشكلة أن هذه «الشراكة» بين رجال الأمن والدرك لا يخرج «سربيسها» دائما على خير. وما وقع لذلك الدركي بإقليم قلعة السراغنة شهر يوليوز الأخير على يد عصابة متخصصة في ترويج المخدرات، يمكن اعتباره درسا لكل دركي أو شرطي يخلط الواجب بالعشبة. فقد وعد الدركي أصدقاءه في العصابة أن الحكم الذي سيصدر ضد أحد أفراد العصابة سيكون مخففا، لأنه سيقوم بتبسيط التهمة في المحضر لكي تتلاءم مع حكم مخفف. إلا أن العصابة اكتشفت بعد صدور الحكم ضد أحد معتقليها أن الدركي لم يضع يده في المحضر ولم يخفف أي شيء. وفوق هذا وذاك يطالب ببقية الرشوة التي اتفق مع العصابة عليها. فما كان منهم إلا أن استدرجوه بالتي هي أحسن، واختطفوه واحتجزوه ثم عذبوه، والكارثة أنهم اغتصبوه.

وهكذا خرج الدركي من هذه المغامرة «لا حمار لا ستة فرنك».

مما يعني أن حملة تطهير في صفوف الدرك والأمن والعسكر أصبحت مسألة حياة أو موت، حتى لا تتحول هذه المؤسسات الأمنية من مكافحة الجريمة والشغب إلى آلة منتجة لهذه الآفات.

وإلى جانب تحول بعض أفراد الشرطة القضائية إلى مافيوزيين يقاسمون تجار المخدرات غنائمهم، هناك بعض رؤساء الشرطة القضائية من أصبحت مخافر أمنهم تابعة مباشرة لعزرائيل عوض الشرقي أضريس. وأكثرها اشتغالا هذه الأيام مع ملاك الموت هي الشرطة القضائية بتطوان التي أرسلت إلى المقبرة في غضون سنة واحدة ثلاثة مواطنين نزلوا ضيوفا عندها.

ويبدو أن نور الدين قصبي، رئيس الشرطة القضائية، الذي يفتخر بكونه حاصلا على شهادة الدكتوراه في علم الإجرام، لديه عقد حصري مع عزرائيل، لذلك فإنه لا يدخر جهدا في إرسال ضيوفه إلى العالم الآخر كلما مروا من مفوضية شرطته.

والمدهش أن كل المواطنين الذين «استفادوا» من كرم ضيافة سعادة الرئيس وخرجوا من عنده جثثا هامدة يضعون في تقاريرهم أنهم ماتوا «موتة الله». فمنهم من ابتلع كيسا بلاستيكيا وانفجر في رئته كأحمد الداوس، ومنهم من تم اعتقاله في حالة سكر ومات عندهم بسكتة قلبية. ويبدو أنه حتى مواطنو الاتحاد الأوربي الذين ينزلون ضيوفا في ولاية الأمن بتطوان لا يخرجون سالمين، مثل المواطن الفرنسي «بيريز فرانسوا» الذي وضعه رئيس الشرطة القضائية رهن الاعتقال الاحتياطي، بتهمة حيازة المخدرات، فعاد إلى فرنسا داخل صندوق.

إن كل هذه الجثث التي جمعها رئيس الشرطة القضائية بتطوان في رصيده، تستحق من الإدارة العامة للأمن الوطني أن تفتح تحقيقا معمقا في ملابساتها. فلا يعقل أن يموت في ولاية أمن واحدة في ظرف سنة واحدة ثلاثة مواطنين. حتى الأخطاء الطبية في العيادات الخاصة لا تقتل سنويا كل هذا العدد من الضحايا.

ولعل ما سيشجع الإدارة العامة على المضي في فتح هذا التحقيق هو «السيرة العطرة» التي تركها رئيس الضابطة القضائية وراءه في آسفي عندما كان رئيسا للضابطة القضائية هناك.

فمنذ سنتين وإلى الآن لازالت زوجة وأبناء بكري عبد العزيز يبحثون عن جثة والدهم الذي اختفى عن الأنظار ولم يعثروا سوى على سيارته المحروقة. ورغم أن الزوجة راسلت وزير الداخلية ووزير العدل وبقية اللائحة الطويلة التي لا أحد منهم يجيب عادة عن شكايات المواطنين، واتهمت عناصر أمنية عاملة تحت إمرة رئيس الشرطة القضائية بمعرفة سر اختفاء زوجها، فإن الجثة لم يظهر لها أثر إلى اليوم.

ولدينا في الجريدة ملف كامل من الشكايات التي كتبها مواطنون بعضهم مرمي في السجن وبعضهم خارجه يتهمون فيها عناصر أمنية عاملة تحت إمرة رئيس الشرطة القضائية بتلفيق تهم المس بالمقدسات والتعذيب في مخافر الأمن.

وليست آخرها طبعا الشكاية التي رفعها نائب الوكيل العام للملك بآسفي، بعد أن ترك القضاء واشتغل في المحاماة، ضد رئيس الشرطة القضائية يتهمه فيها بتعذيب أخيه وتلفيق تهمة المتاجرة بالمخدرات له للانتقام من نائب الوكيل العام للملك الذي تجرأ وأمر بفتح تحقيق في السجن المدني بآسفي بعد الإضراب الذي شنه السجناء داخله. وانتقاما أيضا لكل الشكايات التي فتح فيها نائب الوكيل العام للملك تحقيقا والتي كانت تتهم كلها رئيس الشرطة القضائية بالتعذيب والشطط في استعمال السلطة.

هكذا نفهم بشكل أفضل لماذا يدعي رئيس الشرطة القضائية أنه حاصل على دكتوراه في علم الإجرام. «الراجل قاري على الإجرام فالجامعة، ماشي غير سامع عليه».

عندما ترى الإدارة العامة للأمن الوطني كيف أن بعض رؤساء الشرطة القضائية أصبحوا في ظرف وجيز يشيدون القصور في الشمال، إلى جانب تجار المخدرات. وعندما نكتشف أن قائد سرية الدرك الملكي بتارغيست لديه في حساباته تسعون مليار سنتيم. وعندما نرى كيف أن جنرالا «يصرف» 120 مليون سنتيم إلى الأورو في باب سبتة فقط لكي يقضي بها عطلة لبعض الأيام في «لاكوسطا ديل صول». عندما نرى كل ذلك نفهم أن هناك شيئا ما فاسدا في المملكة الشريفة.

العدد 587 الخميس 7 اغسطس 2008