المساء - شوف تشوف - رشيد نيني : ديمقراطية سراق الزيت

كانت حلقة الأمس من البرنامج الساخر "حوار" مسلية للغاية. فقد اكتشف المشاهدون الكرام أن مصطفى العلوي لديه قدرة كبيرة على السخرية حرم منها التلفزيون المغربي بسبب جديته المفرطة في تغطية الأنشطة الملكية. واكتشف المشاهدون أن الصحافيين الذين استدعاهم البرنامج اتفقوا على مناداة وزير الإعلام بمعالي الوزير، مع العلم أنه حضر بقبعته الحزبية وليس الوزارية.

واكتشف الجميع أن معالي الوزير لا يفرق بين اقتصاد الريع واقتصاد الرعي، مع أن معاليه لديه دبلوم في الترجمة فتح به مكتبا في وسط الرباط وغادره عندما نودي عليه ليجلس فوق كرسي الإعلام الذي كان يجمع بينه وبين كرسي الثقافة معالي وزير آخر اسمه الأشعري.

طرح الزملاء الصحافيون كثيرا من الأسئلة على نبيل بنعبد الله. وهي أسئلة في مجملها جاء الوزير مستعدا لها بتقطيب الجبين والكثير من النبرات حادة في الصوت. وكم كان منظر معالي الوزير مضحكا عندما حاول أن يقلد زميله في الحكومة فتح الله والعلو أيام كان في المعارضة، وخبط على طاولة البلاطو براحة يده وهو يصرخ مخرجا عينيه في المشاهدين بأن حزب التقدم والاشتراكية لن يسمحب استمرار "اقتصاد الرعي"، قبل أن يتدارك الخطأ ويعوض الرعي بالريع. وأن حزب التقدموالاشتراكية سيحارب الفساد واستغلال النفوذ.

مع أن الجميع لاحظ كيف أن نواب حزبه فيالبرلمان ضربو الطم عندما تورط موظف سامي كمنير الماجدي في فضيحة استغلال النفوذعندما فوت له وزير الأوقاف أرض الأحباس بتارودانت. وكأن هذا الاستغلال الفاضحللنفوذ لا يدخل ضمن خانة الفساد الذي يريد نبيل بن عبد الله محاربته في الحكومةالمقبلة التي أراد أن يفهمنا من خلال البرنامج أنه سيدخلها بزز.وشخصيا أعتقد أن أهمسؤال طرح خلال البرنامج هو السؤال الذي طرحه "النجم" مصطفى العلوي، فقد أصبح واضحااليوم أن "نجم" برنامج حوار هو العلوي نفسه، لأنه يتجرأ ويطرح الأسئلة التي يخاف أويخجل بعض الصحافيين من طرحها على ضيوفه. والسؤال الهام الذي طرحه العلوي على معاليوزير الاتصال، والذي بدا لي شخصيا مهما للغاية، هو مشكلة الصراصير في المغرب، وهللدى الحكومة المقبلة استراتيجية واضحة للقضاء على هذه الحشرات.قلت في نفسي أنهأخيرا تجرأ أحدهم في التلفزيون وطرح سؤالا مهما يمس الحياة اليومية للمواطن علىوزير في الحكومة ومرشح للانتخابات المقبلة.

فالصراصير قضية تعيشها كل العائلاتالمغربية وتبحث لها عن حل طيلة السنة بلا فائدة. ومع ذلك ليس هناك أي حزب سياسيمغربي تواضع وفكر في صياغة سطر أو سطرين في برنامجه الانتخابي يتعهد فيه بالنضالبكل الوسائل السياسية الممكنة للقضاء على الصراصير.المغاربة تعبوا من الوعودويريدون شيئا ملموسا، لذلك فكلام معالي وزير الإعلام وهو يخبط مكشكشا على الطاولةمحذرا المفسدين من صعود حزبه للحكومة، هو كلام للاستهلاك الإعلامي لا غير، فلو كانينفع خبيط الطبالي في السياسة لكنا طفرناه من وراء والعلو الذي لم يخبط قبله ولابعده وزير نصف ما خبطه من طبالي في البرلمان. لذلك فكل من شاهد نبيل بن عبد اللهيخبط بقبضة يده تلك الطاولة، التي يتبرع بها الفندق على برنامج "حوار"، قال في نفسهما يقوله أشقاؤنا المصريون :- كان غيرك أشطر...وشخصيا أنا متفق مع وزير الاتصالعندما يقول بيقين شبه تام بأن حزبه سيرجع إلى الحكومة إلى جانب حلفائه ليتمم بناءما بدأه. فهناك الكثير من الوزراء بدؤوا البناء فعلا، خصوصا بناء الفيلات على شواطئالبحر ولم يكملوها بعد، لذلك يجب أن نساعدهم لكي يعودوا إلى الحكومة حتى يكملواالبناء والتشييد. وبنظري فإن الأحزاب التي تتحدث اليوم بتفاؤل كبير عن ملايينالمناصب التي سيخلقونها بمجرد وصولهم إلى الحكومة، يجب أن يفكروا في إعادة صياغةبرامجهم الانتخابية وأن يوحدوا جهودهم السياسية والنضالية في محاربة شيء واحد فقط،الصراصير. وإذا نجحوا في هذه المعركة السياسية فإنهم سيعطون المثال على الوفاءبالعهود التي قطعوها على أنفسهم أمام الشعب.

ولو أن رأيي الشخصي هو أن الحكومةستفشل في حربها ضد الصراصير لسبب رئيسي واحد، وهو أن الصراصير تعلمت الديمقراطيةوتطبقها يوميا، عكس أحزابنا السياسية التي تعلمت فقط كيف تعطي دروس في الديمقراطيةللآخرين بينما هي تطبق داخل أجهزتها الدكتاتورية والزعامة مدى الحياة.وحتى يتعرفمعالي وزير الاتصال على بعض ملامح ديمقراطية الصراصير التي يريد القضاء عليها،ليسمح لنا أن نحيله على الدراسة العلمية المعمقة التي نشرتها مجلة "أعمال أكاديميةالعلوم القومية" الأمريكية، والتي عرضت قناة "ديسكوفري" المتخصصة نتائجها، والتيتؤكد أن كل صرصار يتمتع باستقلاله الذاتي، إلا أن الصراصير تتعاون معا في عمليةديمقراطية بسيطة جدا. أما اتخاذ القرارات المشتركة فيأتي بعد التداول في الأمورجماعيا. وذكر باحثون في الجامعة الحرة ببروكسيل، أن الصراصير من فئة "بلاتيلاجرمانيكا" تمتاز بالكفاءات الديمقراطية، إذ يتعامل كل صرصور مع الآخر اعتمادا علىوسائل اتصالات عن بعد ووسائل كيميائية وبالتلامس وبالنظر.

وإذا كانت الصراصير تتفوق على الطبقة السياسية في تطبيق الديمقراطية الداخلية، فإن الطبقة السياسية تنافس الصراصير على القدرة على الصمود ضد الانقراض. فالزعماء السياسيون عندنا شبه خالدين،تمر العقود تلو العقود وهم جالسون فوق كراسي الزعامة لا يزحزحهم مرض ولا شيخوخة ولاخرف.وهذه القدرة على البقاء يتميز بها الصرصار أكثر من غير من الحشرات، وإذا كان عمر الإنسان على هذه الأرض لا يتجاوز أربعين ألف عام فإن عمر الصرصار على وجه الأرضيتجاوز 150 مليون سنة.

ومنذ أن ظهرت الصراصير تعرضت الأرض لخمس موجات انقراض تسببت كل موجة في إبادة تسعين بالمائة من مخلوقات البر والبحر، وفي آخر موجة انقراض هلكت الديناصورات والثدييات العملاقة فيما أفلتت الصراصير بآذانها الطويلة لخامس مرة.

وهناك في طبقتنا السياسية من عمره مثل عمر المش، لديه سبعة أرواح، بحيث أفلت منالإعدام ولم تصور منه القنبلة الموقوتة شيئا، وخرج من أسوأ المعتقلات "صح من ظالم"،استطاع أن يعيش ويرى هلاك رفاقه وانقراضهم بسبب المرض والأجل المحتوم، فيما هو صامدأمام "موجات الانقراض" هذه مثل صرصور حقيقي.وهناك صفة مهمة يشترك فيها الصرصارالحشري مع الصرصار البشري، السياسي تحديدا، وهي أن كلاهما بلا قلب. فالصرصار كائنلا يعاني من أمراض القلب، لأنه ببساطة لا يملكه، وكل ما تتوفر عليه هو أنابيب ضاغطةتحرك الدورة الدموية في الاتجاهين. وهذه الميزة تجعل الصراصير لا تعرف شيئا اسمهالتعب أو ضعف اللياقة.

والسياسي أيضا كائن بلا قلب، ومنهم من لا يربي الكبدة علىحزبه أبدا، وبين جمهور برنامج "حوار" كان ممكنا أن نرى البرلمانية كجمولة بنت عبي،والتي تعتبر المثال الأكثر وضوحا على السياسي الذي لا يربي الكبدة على حزبه. فقدخرجت أول الأمر من صفوف تنظيم نسائي في البوليساريو وجاءت إلى حزب الحركة الشعبية،ومجرد ما علمت بأن حزب الحركة الشعبية ذي الأصول اليمينية لن يضعها على رأس اللائحةغادرته ودخلت حزب نبيل بن عبد الله ذي الأصول الشيوعية. وهي اليوم تفاوض إسماعيلالعلوي على رأس اللائحة للانتخابات المقبلة وإلا ستجمع باليزتها وتذهب لتبحث لنفسهاعن حزب يضعها فوق رأسه.

في الحقيقة كنت أنتظر من مصطفى العلوي أن يستحضر في برنامجهحكاية الصرصار والنملة، عوض مطالبته لوزير الاتصال ببرنامجه الحكومي في القضاء علىالصراصير. فحكاية الصرصار والنملة تنطبق تماما على الحالة التي توجد عليها الأحزابالسياسية اليوم. فقد وقع لهم ما وقع للصرصار الذي قضى فصل الصيف كاملا في الزهوواللهو يلعب الكمانجة ويسخر من النملة المجدة التي لم تكف عن جمع الحبوب استعداداللبرد. وعندما حل فصل الشتاء اكتشف الصرصار أنه لم يذخر أي طعام يقاوم به أشهرالبرد الطويلة، فجاء يستعطف النملة أن تمنحه القليل من الطعام فذكرته بكل الكلماتالساخرة والشتائم التي كان يكيلها لها عندما كانت تمر من أمامه حاملة حبات القمحفوق ظهرها.فبكى الصرصار بكاء حارا وندم على كل الوقت الذي ضيعه وراء الحفلات الراقصة مزهوا بكمنجته وصوته.طوال عشر سنوات والأحزاب المشاركة في الحكومة نائمة في العسل، تجد وزراءها في كل المهرجانات الموسيقية. عجزوا عن توفير الشغل والصحة و الأمن والكرامة والعدل للمواطنين، واليوم يأتون إلى التلفزيون شبه باكين مستعطفين لكي نمنحهم القليل من أصواتنا حتى يعودوا إلى مهرجاناتهم و إقاماتهم الوزارية و دواوينهم الدافئة ورواتبهم السمينة.

0 تعليقات: